وجملة القول إن العقول السامية تشرئب دائما من وراء الحقائق الجزئية الحائلة الزائلة، إلى حقيقة كلية أزلية أبدية، حقيقة لا يحويها شيء من العلوم والمعارف، ولكنها تتشوف إليها كل العلوم والمعارف وتلك الحقيقة التي تفردها الأديان العليا بالتقديس، ولا تنكرها سائر الأديان وإن أشركت معها في هذا التقديس بعض الحقائق الجزئية الفانية.
إن هذا الشوق الغريزي إلى الأزلي الأبدي، وهذا الطلب الحثيث للكلي الا نهائي، له دلالتان عميقتان: إحداهما دلالته على مطلوبه، لا كدلالة الحركة القسرية على مصدر جاذبيتها كما يقول أرسطو، بل كدلالة الأثر على صانعه، أو الخاتم على طابعه (حسب تعبير ديكارت). وثانيهما دلالته على أن في الإنسان عنصرا نبيلا سماويا خلق للبقاء والخلود، وإن تناساه الإنسان وتلهى عنه حينا، قانعا بالدون من الحياة الجثمانية المنحطة.