لو أمعنا النظر في الفرق بين حقيقة المعرفة وحقيقة الإيمان، وفي الفرق بين القوة النفسية التى تقوم بوظيفة المعرفة، والقوة النفسية التي تقوم بوظيفة الإيمان، فالواحد من الناس قد يدرك معنى الجوع والعطش، وهو غير محس بآلامها، وقد يفهم معنى الحب والشوق، وليس من أهلهما، وقد يرى الأثر الفني البارع فيفهم أسراره، ويقف على دقائق صنعه، ولكنه لا يتذوقه، ولا يتملك قلبه الإعجاب به، وقد يعرف لفلان فضل عقل أو حزم، أو أدب أو سياسة، أو أولئك جميعا، ولا يشعر نحوه بعاطفة ولاء، ولا رابطة مودة، بل يكاد يغص فؤاده بهذه الفضائل حقدا وحسدا، ويكاد ينكر قلبه ما تراه عيناه. هذه كلها ضروب من العلم والمعرفة يهديها إلينا الحس، أو الفكر، أو البديهة، أو الحدس، فتلاحظها النفس وكأنها غريبة عنها، أو تمر بها عابرة فتمسها مسا جانبيا لا يبلغ إلى قرارتها، أو تختزنها وتدخرها، ولكنها لا تهضمها ولا تتمثلها، كل حالة نفسية تقف بالأفكار والمباديء عند هذه المراحل ليست من الإيمان في قليل ولا كثير، الإيمان معرفة تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير، وتختلط مادتها بشغاف القلوب فلا يجد الصدر منها شيئا من الضيق والحرج، بل تحس النفس فيها ببرد وثلج. إن الإيمان تذوق ووجدان يحمل الفكرة من سماء العقل إلى قرارة القلب، فيجعلها للنفس ريا وغذاءا يدخل في كيانها. ويصبح عنصرا من حياتها. فإذا كان موضوع الإيمان الحقيقة الكبرى، والمثل الأعلى، فهنالك تتحول الفكرة قوة دافعة، فعالة، خلاقة، ولا يقف في سبيلها شيء في الكون إلا استهانت به حتى تبلغ هدفها.
ذلك هو فصل ما بين الفلسفة والدين. غاية الفلسفة المعرفة؛ وغاية الدين الإيمان. مطلب الفلسفة فكرة جافة، ترتسم في صورة جامدة؛ ومطلب الدين روح وثابة، وقوة محركة.