على أنه في الحالة التي يكون فيها الباعث على العبادة هو الشعور بتلك الحاجة، والتي يتحول فيها معنى العبادة من التسبيح والتقديس إلى التماس الحماية - نقول أنه حتى في هذه الحالة - لا يجعل العابد من عبادته وسيلة يقينية للحصول على مأربه، كأنها عملية حسابية، أو قياس منطقي، أو تجربة مفروغ منها لا بد أن تؤتي ثمرتها، لأن التدين ينطوي دائما على اعتقاد أن القوة المتوجه إليها لا تصدر في تصرفاتها إلا عن مشيئتها المستقلة. ولذلك نلاحظ في توجهاته شعورا مزدوجا، هو مزيج من الاستسلام والرضى بما يقع، والأمل والرجاء فيما يتوقع. وإذا كان اللاعب المغامر لا يعد نفسه فاشلا لمجرد تكرر خسارته، ولا ييأس من مؤاتاة الحظ له بالربح في فرصة قريبة أو بعيدة، فالمؤمن أحق بتنحية عوامل اليأس من حسابه، وإرخاء حبل الأمل لنفسه إلى آماد بعيدة في حياته أو بعد مماته، بل المؤمن الصادق حين يلتجيء إلى ربه، ويناجيه برغائبه ومخاوفه، يجد في هذه التوسلات والدعوات نفسها شفاءا وراحة هو عليهما أشد حرصا منه على موضوع شكواه. وحسبه أنه في هذه الانبعاثة يعبر تعبيرا واعيا صادقا، بأقواله وأفالعه وأحواله، عن مبلغ إدراكه للحقائق، ومدى شعوره بالتفاوت بين ضعف المخلوق وقوة الخالق، وأنه بذلك الإدراك وهذا التعبير يحقق المهمة العليا للإنسان في هذه الحياة. فسواءا عليه بعد ذلك أن تصادف دعوته قبولا أو ردا، فقد أصاب من قبل حاجته الكبرى بهذا الخضوع الذي هضم به كبرياء نفسه، ووضع به كل شيء في موضعه، وبهذه العبودية التي أتم بها تصفية روحه وإنضاج فطرته، وتلك هي قرة عين المؤمن، والهدف الأسمى للمتعبدين.