و كما يمتلئ البالون بالهواء، امتلأ دماغه بأفكار دارت حول فلك وجودي و فلسفي صعب: كيف تردَّى لهذا الدرك العميق؟ كيف تحوَّل لورم قبيح؟ كيف فشل في أن يعيش حياة منتجة بعد أن توافرت له كافة مقومات النجاح؟ لابد و أنه ميل غريزي أو وراثي للفساد و الإفساد. إنه الآن، في هذه اللحظة لا يرى نفسه إلا أنموذجًا لهؤلاء الفشلة و المشردين الذين يتهربون من أداء أي دور إيجابي في الحياة. تزوَّج من امرأة محترمة و ملتزمة، عذبة اللسان ترضى باليسير، و فوق هذا و ذاك هي حب حياته منذ الصغر، فما كان أسهل من أن يعيش في كنفها راضيًا محترمًا، لكنه أبى و غمط النعمة. لم يتقبَّل حلاوة الزواج و السكن، و استهزأ بأسس الرباط و الدين، و سدَّد تركيزه في البحث عن السلبيات و التبرّم من الالتزام. تلبَّس بالأنانية، و استهزأ بالولاء لربّه و دينه، و يكاد يقسم أنه ما رأى نفسه و قد ولَّى وجهه جهة القبلة ذات يوم، أو توجه لله بالدعاء، أو حتى صلى الجمعة. و الأخيرة بالذات و لأنها شعيرة إلزامية يقف على شهادتها الناس، كان يتحايل عليها،فيهيم على وجهه في الطرقات حتى ينقضي ميقات الصلاة، و ينخرط في جموع المغادرين كأنه منهم. و لمَّا تزوّج لم يتغيّر من سلوكه شيء، اللهم إلا مرتين أجبرته زوجته على مصاحبتها للمسجد، و يذكر أنه غطّ غطيطًا ما دامت الخطبة، و كاد يتشاجر مع بعض الإخوة المصلين ممن نبّهوه إلى حتمية إعادة الوضوء لأنه نام، و ما كان ليفعل و لو للحظة. و الأدهى أنه عاش مع هذا راضيًا غافلًا. و نظر بحقد إلى فكرة العمل الجاد ما دام المجتمع ذاته لا يقدِّس قيمة العمل، و يعيش أفراده حياة طفيلية خبيثة عمادها النصب و الاحتيال و التهليب و الفهلوة و الانتهازية؟ كيف يعيش ليخدم أولائك السابلة في الشوارع، الذين لا يتورّعون عن كسر القانون و تدمير ثوابت الدين لو أن هذا يحقق فائدة؟ حتى الميزة الأخلاقية الوحيدة التي نذر نفسه لتلبيتها، و هي ألا يأتي النساء في الحرام، لم يأخذها عهدًا يلتزم بمعناه و يعمل بمقتضاه، إذ سرعان ما نبذه في حياة زوجته، و اكتشف أن تمسَّكه بهذه الفضيلة لم يكن إلا إطارًا شكليًا سببه الخوف ممن حوله. أحمد صلاح سابق