وتقضت أيام الحصاد هي الأخرى، وانتقلوا لعمل جديد. واستعاضوا بذلك مكان الليل المقمر ونسيمه العذب وآماله وأحلامه نهار الصيف وشمسه المحرقة، ولكنهم ما كانوا ليحسوا بذلك أو ليألموا له وقد تعودوه كما تعوده آباؤهم من قبلهم. تعودوه من يوم مولدهم، فانتقل إليهم بالوراثة وبالوسط. وتعودوا ذلك الرق الدائم ينحنون لسلطانه من غير شكوى ومن غير أن يدخل إلى نفوسهم قلقا. يعملون دائما ومن غير ملال، ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم زاهرة ناضرة، ثم يقطف ثمرتها سيد مالك كم فكر في أن يبيع قطنه بأغلى ثمن، ويؤجر أرضه بأرفع قيمة، وفي الوقت عينه يستغل الفلاح نظير قوته الحقير، ولم يدر بخاطر السيد يوما أن يمد له يد المعونة، أو أن يرفعه من درك الرق الذي يعيش فيه، وكأنه ما علم أن هذا المجموع العامل يكون أكثر نفعا كلما زادت أمامه أسباب المعيشة وتوافرت عنده دواعي الطمع في أن يحيا حياة إنسانية. لكن السيد المالك لا يهمه شيء من ذلك. وهو الآخر يعيش كما عاش آباؤه، يحافظ على القديم، ولا يفكر في أن يغير من عادات سلفه شيئاً. وإذا حدّثك عن الماضي حدّثك عنه باحترام وتبجيل آسفًا أن انتقل أجر النفر الشغال أيام الشتاء من قرش إلى قرشين، وتمنى عودة ذلك الزمن زمن البساطة والرخص، لا لأنه يشكو مما يثقل عاتقه في الحاضر من الواجبات -فإنه يرى الحاضر أحسن كثيرًا من هذه الجهة- ولكن لتسقط الأجور إلى مستواها الأول، فيكون هو بذلك أوفر ربحًا، ويبقى العامل والفلاح لذلك في ظلمته وفي رقه وشقائه. محمد حسين هيكل
اقتباسات أخرى للمؤلف