؛ فالناس جميعًا يؤمنون بأن الإسكندر عظيم ، ولكنهم يردُّون هذه العظمة إلى ما أحدث الإسكندر من فتح لم يعرفه التاريخ القديم . وكيف لا يكون عظيمًا ذلك الشاب الذي نهض بالأمر بعد أبيه ، فلم يكد يستقبل الملك حتى فسد عليه كل شيء ، واضطرب من حوله كل شيء ، فإذا جيرانه يغيرون على مملكته من كل صوب ، وإذا حلفاؤه ينقضون الحلف ويثورون به يريدون أن يقضوا على سلطانه ؛ وإذا هو على حداثة سنه وقلة حظه من التجربة ، قد ثبت لهذا كله ، فَصَدَّ المُغِير ، وردَّ الحليف إلى الوفاء بالعهد ، وقضى على أطماع جيرانه ، ومحا آمال اليونان في الاستقلال ، واتخذ من خصومه وأعدائه على اختلاف أجناسهم ، وتباين أهوائهم ، وتفاوت حظوظهم من الرقي العقلي ، جيشًا ضخمًا منظمًا ، عبر به البحر إلى آسيا . فلم يكد يظهر فيها حتى طرد الفرس من آسيا الصغرى ، ومضى في طريقه يتبع ساحل البحر حتى أخضع البحر كله لسلطانه ، وإذا هو في الشام ، وإذا هو في مصر ، وإذا هو وارث ملك الفراعنة ، وإذا هو يؤسس عاصمة العالم الجديد ، وإذا هو يترك مصر ويتعمق في آسيا ، فيقضي على دولة الفرس ويرث عرشها ، وإذا هو يجدُّ في غزوه ويُمْعِن في فتحه ، فيبلغ الشرق الأقصى ، ويُوغِل في الهند إيغالًا ، ويرفع لواء الحضارة اليونانية والأدب اليوناني في أرض لم تسمع باليونان من قبل ، وإذا هو يعود إلى بلاد الفرس ويستقر للراحة في بابل وقد ورث ملك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس وسلطان اليونان والفينيقيين ، وضم هذا كله إلى ملك مقدونيا الذي ورثه عن أبيه . كل ذلك لم يرضه ولم يقنعه ، وما كان استقراره في بابل إلا استعدادًا لحركة أخرى أشد عنفًا من الحركة الأولى وأبعد منها أثرًا ؛ فقد كان يريد أن يستأنف السير فيعبر البحر إلى إفريقية ، ويمضي في طريقه حتى يبلغ عمود هرقل أو مضيق جبل طارق ، فيقضي على سلطان الفينيقيين في إفريقية الشمالية ، ويبسط سلطانه على أوربا الغربية ، ويقتحم هذا القسم من أوربا حتى يتم دورته ، وينتهي إلى مقدونيا حيث ابتدأ حركته . كان يستعد لهذا كله ، كان زعيمًا أن يتمه ويوفق له ، لولا أن الموت عاجله فوقفه في منتصف الطريق ! كيف لا يكون عظيمًا هذا الشاب الذي فعل هذا كله في عشر سنين أو أقل من عشر سنين ؛ نعم هو عظيم ، ولم تخطئ الأجيال الماضية حين أضافت عظمته إلى هذه الحركة العنيفة الخصبة . ولكننا مع ذلك نرى أن عظمة الإسكندر ينبغي أن تضاف إلى شيء غير هذا خليق بالخلود حقًّا ؛ لأنه يتصل بالعقل لا بالأرض ، فلم يكن الإسكندر قائد جيش ليس غير ، وإنما كان قائد فكر قبل كل شيء وبعد كل شيء ، وفوق كل شيء . لم يفهمه معاصروه ، ولم يفهمه خلفاؤه ، وفهمناه نحن ، ولكننا لم نفهمه بعد كما ينبغي .طه حسين