شيء آخر يتم نظرية أفلاطون في الأخلاق ، ويعين على فهم هذه الشخصية القوية ، وعلى فهم ما كان لفلسفة أفلاطون من أثر بعيد في الحياة الإنسانية ، وهو رأيه في العقوبة الخلقية ، فليس يكفي أن يمثل لك الخير ويدعوك إليه . بل ليس يكفي أن يمثل لك الشر ويحذرك منه . وإنما هو يرى أن العقوبة أمر محتوم لا منصرف عنه ولا مفر منه ، فلكل عمل جزاؤه ، له الثواب إن كان خيرًا ، وله العقاب إن كان شرًّا — تلك نتيجة محتومة للعدل ، وهي نتيجة طبيعية ليست متكلفة ولا مصطنعة ، ليست كهذه العقوبات التي تفرضها القوانين المكتوبة ، وإنما هي أقوى وأنفع وألزم من هذه العقوبات . يرى أفلاطون أن هذه العقوبة ليست شرًّا ، وإنما هي الخير كل الخير ، ذلك أنها لا ترمي إلى الانتقام ولا إلى التعذيب ، وإنما ترمي إلى التصفية والتطهير ؛ فالأنفس الآثمة عندما تعاقب تطهر من أدران الإثم ، وتعد لأن تستأنف حياتها الصالحة الراقية التي تلحقها بنفوس الأخيار وترقى بها إلى مستقرها الأول في الملأ الأعلى . أما تفصيل هذه العقوبات فجميل لا يخلو من لذة شعرية ، ولا من قوة خيالية مدهشة . وحسبك أن مذهب التناسخ يختصر هذه العقوبات : فالنفس الآثمة بعد الموت تعود إلى هذه الحياة لتمحو إثمها ، وهي تستقر في جسم من الأجسام يلائم نوع الإثم الذي اقترفته : كانت نفس رجل ، فهي الآن نفس امرأة . كانت نفس إنسان ، فهي الآن نفس فرس ، أو نفس كلب ، أو نفس حمار ، وهلم جرًّا ، فأنت ترى أن النظرية الخلقية لأفلاطون متصلة بنظريته في الطبيعية وفيما بعد الطبيعة . وليست بنظريته السياسية بأقل اتصالًا بفلسفته العامة من نظريته الخلقية . ذلك لأن رأيه السياسي يقوم على رأيه الخلقي : فالجماعة عنده كالفرد تتأثر بما يتأثر به وتخضع له ، ويجب أن تطمح إلى ما يطمح إليه . طه حسين