طه حسين
وبينما كان السوفسطائيون ينكرون كل شيء ويجحدون كل حقيقة ؛ فيهدمون بذلك كل علم وكل فلسفة ، كان سقراط يثبت الحقائق ، ويعلن أن هذا العلم ليس لغوًا ولا عبثًا ولا باطلًا ، ويسلك في إثبات هذا كله سبيلًا تقرب كل القرب من السبيل التي سلكها ديكارت بعده بعشرين قرنًا ، وهي أن يثبت وجود نفسه أولًا . فإذا ثبت له وجود نفسه فقد ثبت أن في العالم حقائق ثابتة ، وأن الفلسفة السوفسطائية كلها تقوم على شيء من العبث والمغالطة . ذلك أنك مهما تنكر فلن تستطيع أن تنكر نفسه ، ولن تستطيع أن تنكر أنك تفكر وتحسُّ وتشعر ، وإذن فنفسك وما يصدر عنها من تفكير وحسن شعور ، كل ذلك حقائق ثابتة لا تحتمل شكًّا ولا جدالًا ؛ ومن هنا قامت الفلسفة السقراطية ، أولًا : على محاربة السوفسطائية ، وإثبات أن هناك حقائق موجودة ، وثانيًا : على أن هذه الحقائق ، إنما تُعلم إذا عُلمت النفس الإنسانية التي هي السبيل الحقيقية إلى إدراكها ، وثالثًا : على أن العلم بهذه النفس ليس معناه إلا العلم بجوهرها وما يلائمها وما يخالفها . ورابعًا : على أن العلم بهذا كله ليس الغرض منه — أو لا ينبغي أن يكون الغرض منه — إلا السعادة التي هي تحصيل ما يلائم النفس وتجنب ما يخالفها ، وخامسًا : أن الحياة كلها تدور حول محور واحد عنه صدرت وإليه تنتهي ، وهو الخير . هذه هي خلاصة الفلسفة التي يمكن أن تضاف إلى سقراط ، وهي شيء من اليسير أن يوجز في جمل قصار ، ولكن من العسير جدًّا أن يحصى تأثيره في الحياة الإنسانية والعقل الإنساني . طه حسين
اقتباسات أخرى للمؤلف