وكان أمر البصرة أشد من أمر الكوفة تعقيداً، فقد كان أهل هذا المصر بايعوا عليّاً واستقاموا لعامله عثمان بن حُنَيف. فلم يلبثوا إلاّ قليلاً حتى أظلَّهم الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم من الجند. فأرسل إليهم عثمان بن حُنيف سفيرين من قبله، هما عمران بن حُصَين الخزاعي صاحب رسول الله وأبو الأسود الدؤلي، فلما أقبلا سألا القومَ: ماذا يريدون؟ فقالوا: نطلب بدم عثمان ونجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من يشاءون. وهمّ السفيران أن يحاورا القوم في هذا الأمر، فأبى القوم أن يسمعوا منهما فعادا إلى عثمان بن حُنيف ينبئانه أن القوم يريدون الحرب ولا يريدون غيرها، فتأهّب عثمان للقتال وخرج في أهل البصرة حتى واقف القوم، ثم تناظروا فلم يصلوا إلى خير. خطب طلحةُ والزبير فطلبا بدم عثمان وجَعْل الأمر شورى بين المسلمين. فردّ عليهما مِن أهل البصرة مَن كانت تأتيهم كتبُ طلحة بالتحريض على قتل عثمان. واختلف أهل البصرة وقال قوم: صَدَقا وتكلَّما بالصواب. وقال قوم: كذَبا ونطقا بغير الحق. وارتفعت الأصوات واشتد الخلاف، وجعل أهل البصرة يتسابُّون. ثم جيء بعائشة على جملها فخطبت الناس وأبلغت في الخطابة. لسان زلق ومنطق عَذْب وحجة ظاهرة القوة. تقول: غضبنا لكم من سوط عثمان وعصاه أفلا نغضب لعثمان من السيف؟ ألا وإن خليفتكم قد قُتل مظلوماً، أنكرنا عليه أشياء وعاتبناه فيها فأعتب وتاب إلى الله، وماذا يطلب من المسلم إن أخطأ أكثر من أن يتوب إلى الله ويُعتب الناس. ولكن أعداءه سطوا عليه فقتلوه واستحلوا حُرماً ثلاثا: حُرْمة الدم وحرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام. وقد استمع لها الناس في صمت عميق، ولكنها لم تكد تُتمّ حديثها حتى عادت الأصوات فارتفعت يصدّقها قوم ويكذبها قوم، وأولئك وهؤلاء يتسابُّون ويتضاربون بالنعال. ومع ذلك ثبت مع عثمان بن حُنيف جند قويّ من أهل البصرة فاقتتلوا قتالاً شديداً وكثرت فيهم الجراحات، ثم تحاجزوا وتداعوا إلى الهدنة حتى يقدم علي. وكتبوا بينهم كتاباً بذلك يُقِرّ عثمان بن حنيف على الإمرة ويترك له المَسْلحة وبيت المال. ويُبيح للزبير وطلحة وعائشة وممن معهم أن ينزلوا من البصرة حيث يشاءون. وعاد أمر الناس إلى عافية ظاهرة. ومضى عثمان بن حُنيف على شأنه يصلي بالناس ويقسم المال ويضبط المصر. ولكن القوم الطارئين ائتمروا فيما بينهم فقال قائلهم: لئن انتظرنا مَقْدَم عليّ ليأخذن بأعناقنا. ثم أجمعوا على أن بيتوا عثمان بن حُنيف، وانتهزوا ليلة مظلمة شديدة الريح فعدوا على عثمان وهو يصلي بالناس العشاء الآخرة، فأخذوه ووكلوا به من ضربه ضرباً شديداً ونتف لحيته وشاربيه، ثم عدوا على بيت المال فقتلوا من حرسه أربعين رجلاً، وحبسوا عثمان بن حنيف وأسرفوا عليه في العذاب. هنالك غضب من أهل البصرة قوم أنكروا نقض الهدنة، وكرهوا هذا العدوان على الأمير، وكرهوا كذلك استئثار القوم ببيت المال، واجتنبوا المدينة وخرجوا إلى بعض ضاحيتها يريدون الحرب وحماية ما اتفق القوم على أنه حرام لا ينبغي أن يعرض له أحد بسوء. طه حسين