نعتقد — ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أيضًا — أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثير يذكر ، إنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرًا عمليًّا ماديًّا ليس غير ، فقد أخذ اليونان عن الشرقيين أشياء كثيرة ولكنها عملية مادية كما قلنا . أخذوا عنهم — مثلًا — نظام النقد ، وأخذوا عنهم نظام المقاييس . وأخذوا عنهم شيئًا من الموسيقى ، وتعلموا منهم فنونًا عملية كالحساب والهندسة ، ولكنهم لم يأخذوا عنهم شيئًا عقليًّا يذكر . فلئن كان البابليون قد رصدوا النجوم ووصلوا من ذلك إلى نتائج قيمة ، فهم لم يضعوا علم الفلك ، وإنما هذا العلم اليوناني لم ينشأ عن النتائج البابلية ، وإنما نشأ عن البحث اليوناني والفلسفة اليونانية . ولئن كان المصريون قد وصلوا إلى نتائج قيمة من الهندسة العملية والآلية فليس المصريون هم الذين وضعوا علم الهندسة ، وإنما اليونان هم الذين ابتكروه ابتكارًا ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد عند اليونان أشياء لا نجد شيئًا يشبهها في الشرق القديم : نجد عندهم هذه المذاهب الفلسفية المختلفة التي حاولت منذ القرن السادس قبل المسيح فهم الكون وتفسيره وتعليله ، ثم نجد عندهم هذه الفلسفة ، فلسفة ما بعد الطبيعة ، وما نشأ عنها من أنواع البحث التي نظمت العقل الإنساني ، ولا تزال تنظمه إلى الآن . ثم نجد عندهم هذه الفلسفة الخلقية التي أنشأت علم الأخلاق ، والتي لم يعرفها العالم القديم من قبل . ونحب أن نلاحظ أن العقل الإنساني ظهر في العصر القديم مظهرين مختلفين : أحدهما يوناني خالص ، هو الذي انتصر ، وهو الذي يسيطر على الحياة الإنسانية إلى اليوم . والآخر شرقي انهزم مرات أمام المظهر اليوناني ، وهو الآن يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليمًا .. طه حسين