نستطيع أن ندرس أفلاطون من حيث إنه كاتب ؛ فنحن نعلم أن تاريخ الأدب اليوناني لم يعرف كاتبًا ثائرًا كأفلاطون ، وأن آثار أفلاطون كلها آيات ، لا بالقياس إلى الأدب اليوناني وحده ، بل بالقياس إلى الأدب الإنساني كله ، سواء منه القديم والحديث . ونحن نعلم أن كل إنسان — مهما يكن حظه من الرقي العقلي ، ومهما تكن جنسيته وحضارته — يستطيع إذا قرأ أفلاطون أن يجد فيه لذة لا تعدلها لذة ، ولا يشعر بها الإنسان إلا حين يقرأ آيات اليونان ، ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية أخرى غير ناحية الكتابة والنثر ، وهي ناحية الشعر والخيال ، فلم ينظم أفلاطون الشعر على قواعد العروض والقافية ، ولكنه كان شاعرًا في نثره ؛ ولا يعرف تاريخ الأدب القديم شاعرًا كان له من قوة الخيال ولطفه وسحره وسلطانه على النفوس مثل أفلاطون . ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية ثالثة ، هي ناحية الفيلسوف الذي يبحث عما بعد الطبيعة . فيتعمق في بحثه تعمقًا لم يسبق إليه ، وأخشى أن أقول لم يلحق فيه ، بل أستطيع أن أقول ذلك ، بشرط أن أستثني تلميذه أرسطاطاليس . ثم هناك ناحية رابعة ، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون ، وهي ناحية الفيلسوف الخلقي ، الذي يؤسس علم الأخلاق ، لا على مبادئ سقراط وحدها ، بل عليها وعلى مبادئ أخرى ، استطاع هو أن يكشفها أثناء بحثه عن الطبيعة وعما بعد الطبيعة . ثم هناك ناحية خامسة نستطيع أن ندرس منها أفلاطون وهي ناحية الفيلسوف السياسي ، الذي وضع علم السياسة ، وحاول لا أن يتفهم الحياة السياسية فحسب ، بل أن يضع نظامًا سياسيًّا يعتقد هو أنه المثل الأعلى للإنسانية المنظمة . ثم هناك ناحية سادسة ، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون ، وهي ناحية الفيلسوف النفسي ، الذي هوَّن الأمر على أرسطاطاليس وغير أرسطاطاليس من الذين عُنُوا بالمنطق ، ووضع علمًا جديدًا يبحث عن المعرفة وشروطها ونظمها وغايتها ، فوضع أساس المنطق ، وأساس علم النفس ، أو قل : وضع أساس الفلسفة كلها . تستطيع أن تدرس أفلاطون من كل هذه النواحي . ولكنك تستطيع أن تطمئن ؛ فلن أدرس أفلاطون في هذا البحث من كل هذه النواحي ؛ فمثل هذا الدرس يحتاج إلى كتاب ضخم لست أنا الذي يستطيع أن يضعه . إنما أريد أن أوجز لك أشد الإيجاز ، خلاصةً من الفلسفة الأفلاطونية التي كان لها الأثر العظيم جدًّا في قيادة الفكر الإنساني قديمًا وحديثًا . طه حسين