هناك شيء آخر نجده عند اليونان ، ولا نجده في الشرق ، وهو هذا التطور السياسي الخصب الذي أحدث النظم السياسية المختلفة في المدن اليونانية من ملكية وجمهورية وأرستقراطية وديمقراطية معتدلة أو متطرفة ، والذي لا يزال أثره قويًّا في أوربا إلى اليوم ، والذي أخذ الشرق يتأثر به في نظمه السياسية أيضًا ، وبينما كانت المدن اليونانية تخضع لهذا التطور الغريب الذي حقق حرية الأفراد والجماعات ، والذي انتصر حتى أصبح المثل الأعلى للحياة الحديثة في الشرق والغرب ، كان الشرق خاضعًا لنظام سياسي واحد لم يتغير ولم يتبدل ، وهو نظام الملكية المطلقة المستبدة الذي تفقد فيه الجماعات والأفراد كل حظ من الحرية ، فكيف نستطيع أن نفسر هذا الاختلاف بين الشرق والغرب ؟ ولِمَ نفسر ؟ وما حاجتنا إلى هذا التفسير ؟ يكفي أن نسجل الحقيقة الواقعة ، وهي أن الحياة اليونانية التي خضعت للشعر في أول أمرها ، ثم خضعت بعد ذلك للعقل ، كانت أخصب حياة عرفها الإنسان في العالم القديم . طه حسين