ولا بد قبل كل شيء من أن نشير إلى المذهب الأفلاطوني في كتابه الفلسفة ودرسها . وهذا المذهب في نفسه هو مذهب سقراط ، أي أنه يعتمد قبل كل شيء على الحوار ، وإذن فهو في نفسه غير جديد . ولكن لا تنس أن سقراط كان يحاور محاورة لسانية ، أي إنه كان يناقش أصحابه وتلاميذه بالفعل . أما أفلاطون فلم يكن يحاور حوارًا لسانيًّا ، وإنما كان يكتب . والفرق عظيم بين رجل يلقاك فيحاورك ، وبين رجل لا يلقاك ولا يحاورك بالفعل ، وإنما يستوحي قلمه حوارًا بديعًا : تخيل أشخاصه ، واخترع موضوعه اختراعًا . كان سقراط متحدثًا ، أما أفلاطون فمؤلف منشئ . ومن هنا كان من الحق الاعتراف لأفلاطون بفضيلة هذا الفن الفلسفي الأدبي ، الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه ، وهو فن الحوار . نعم ! إن أفلاطون لم يخترع الحوار اختراعًا ، وإنما تأثر بمؤثرين مختلفين ، نذكرهما لنلفتك إلى الصلة بين الفلسفة والأدب . الأول : فن التمثيل الذي بلغ أقصى ما كان ينتظر له من الرقي في القرن الخامس ، وأثر في حياة الأثينيين خاصةً واليونان عامةً ، تأثيرًا لا حد له . هذا الفن يعتمد على الحوار ، سواء في ذلك قصصه المحزنة والمضحكة . وهو بهذا الأسلوب ، أسلوب الحوار ، قد استطاع أن يؤثر في الجمهور ويبلغ من نفسه ما كان يريد . فليس عجيبًا أن يفتن الناس بالحوار ويتخذوه أسلوبًا من أساليبهم الأدبية . ونستطيع أن نقول : إن كتب أفلاطون كلها أو أكثرها قصص تمثيلية فلسفية . فكتب أفلاطون كلها أو أكثرها عبارة عن مجلس من المجالس ، يجتمع فيه الناس حول سقراط فيتحدثون ، وينتهي بهم الحديث إلى موضوع من الموضوعات ذات الخطر ، فيتحاورون فيه ، ويشرف سقراط على هذا الحوار وما يزال بأصحابه وتلاميذه ينقلهم من موضوع إلى موضوع ومن مسألة إلى مسألة ، ومن صعوبة إلى صعوبة ، حتى ينتهي بهم إلى النتيجة الفلسفية التي كان يريد إثباتها . وكل هذه الكتب أو أكثرها لا تتخذ أسماءها من الموضوعات التي تدرس فيها ، وإنما تسمى بأسماء الأشخاص الذين لهم في الحوار منزلة خاصة ، فهناك فيدون (Phédon) ، و برتاجوراس (Protagoras) ، و جرجياس (Gorgias) ، و ألسبياد (Alcibiade) ، وغيرها من الكتب التي تسمى بأسماء الأشخاص ؛ وقليلة جدًّا تلك الكتب التي تسمى بأسماء الموضوعات ، كالجمهورية والقوانين وغيرهما. المؤثر الثاني : الشعر ، وأريد الشعر الغنائي الذي تعمق في البحث عن العواطف الإنسانية ، حتى اهتدى إلى دقائقها ، وارتقى في تشخيص هذه العواطف وتمثيلها ، حتى بلغ من العظمة حدًّا ربما لم يبلغه الشعر الحديث . وقد يكون من الحق ألا ننسى الشعر القصصي ، الذي اعتمد عليه أفلاطون في هذه الأساطير المنبثة في كتبه ، والتي يستعين بها على تفسير النظريات الفلسفية وتقريبها . فأنت ترى أن أفلاطون لم يخترع فنه الأدبي اختراعًا ، وإنما تأثر فيه بألوان الشعر الثلاثة ، كما أنه لم يخترع فلسفته اختراعًا وإنما تأثر فيها بالمذاهب الفلسفية المختلفة التي سبقته وعاصرته . ولكن تأثره بالشعر والفلسفة لم يضطره إلى التقاليد ولم يضعف من شخصيته ، وإنما قوَّى هذه الشخصية تقوية عظيمة . وأين هو هذا النابغة الذي يخترع شيئًا من لا شيء ويحدث أحداثًا لا تتصل بما قبلها ، ولا تتأثر بما حولها ؟ وسنرى أن أفلاطون نفسه لم يستطع أن يتصور إلهًا يوجد شيئًا من لا شيء. طه حسين