ما الشعر ؟ وعلى أي ملكة من ملكات النفس يعتمد ؟ وما الفلسفة ؟ وبأي ملكة من ملكات النفس تعتز ؟ أليس الشعر لونًا من ألوان التصور وضربًا من ضروب الحس والفهم أقل ما يمكن أن يوصفا به أنهما يعتمدان على الخيال قبل كل شيء ؟ يعتمدان على الخيال فيدركان الحقائق ، لا كما هي ، بل كما يتصورانها ، ويحكمان على الحقائق ، لا كما ينبغي أن يحكما عليها . بل كما يستطيعان أن يحكما عليها . أليس الشعر ، ولا سيما الشعر القصصي الذي كان إليه قيادة الرأي في العصور الأولى ، مظهرًا من مظاهر الطفولة الإنسانية وصورة من صور الحياة الساذجة الغليظة ! وإذا كان الأمر كذلك ، فالفرق بين الشعر وبين الفلسفة عظيمٌ . ذلك أن الفلسفة لا تعتمد على الخيال ولا تعتز به ، وإنما هي مظهر الحياة العقلية القوية ، وهي وسيلة الإنسان إلى أن يتصور الحقائق كما هي ويحكم عليها الأحكام التي تلائم طبائعها ، أو قل : إنها الوسيلة إلى أن يتصور الإنسان الحقائق ويحكم عليها بعقله لا بخياله ولا بحسه ولا بشعوره . تعتمد الفلسفة على النقد ، ويعتمد الشعر على التصديق . ولأجل أن ينتقل الإنسان من هذه الحياة التي يبهره فيها كل شيء ، ويستأثر به فيها كل شيء ، إلى حياة أخرى لا يخضع فيها لتأثير الأشياء ، وإنما يحاول ، أو يعتقد أنه يحاول ، أن يخضع الأشياء لتأثيره وسلطانه . أقول : لأجل أن ينتقل الإنسان من تلك الحياة إلى هذه الحياة لا بد له من عصور طوال تنمو فيها ملكاته وتستحيل . طه حسين