انفصام الشخصية بارزٌ جداً في مجتمعنا العربي من الرأس حتى القدم، ومن القمة حيث تتربع الحكومات إلى القاع حيث يقف الفرد، كلنا يعيش في عالمين منفصلين لا يلتقيان مهما امتدا... المجتمعات العربية كلها تُمجد الحرية، وتتغنى بالتحرر، والسجون تبتلع الأحرار يوماً بعد يوم، وهي كلها تتحدث عن الديمقراطية وتُفاخر بها، ولم تمارسها يوماً!! وهي تلوح بقبضتها القوية للدول (الإمبريالية) الإستعمارية، مع أنها لا تعيش إلا بها وعليها..! وهي تقف؛ لتعلن في غضبٍ أنها لن تتخلى عن القضية الكبرى والمصير المشترك، ثم تعود إلى النوم من جديد مستندة إلى سيفها، معتمدة على ذاكرة الجماهير المهلهلة! لكن إياك أن تعتقد أننا نلقي المسؤولية على (الحكومات)، ونعفي الأفراد (المظلومين) ـ إنهم، على دين ملوكهم، مصابون أيضاً بانفصام الشخصية (فالكل في هذا الهم سواء)! وربما لن تجد شيئاً أعدل قسمةً بين المواطنين العرب من هذا المرض اللعين! وكم من مرة ضبطتُ فيها طالبة (محجبة) تغش في الامتحانات! وكم من مرةٍ نبهت طالباً تكاد لحيته تحجب ورقة الإجابة ـ أن يكف عن النظر إلى ورقة زميله! وكم من مرةٍ قلتُ لهم جميعاً: إن (مَن غشنا فليس منا)، وإن غض البصر لا يقتصر على النظر إلى الجنس الآخر فقط ـ إن كان يُغض حتى في هذه الحالة! ـ بل يعني أيضاً ألا تسرق غيرك، وألا تتلصص على الناس، وكم من مرة علت وجوههم الدهشة، وقرأتُ عليها ذلك التساؤل، الذي يعبر أدق تعبير عن انفصام الشخصية: (وما دخل ذلك بالدين؟) والطالب المتدين الذي يغش في الامتحان هو نفسه التاجر الذي يرفع السعر، وينقص الوزن، ويسرق زبائنه ـ فإذا أذّن المؤذن هرع إلى المسجد؛ حتى لا تفوته الصلاة! إنه انفصام بين الاعتقاد والسلوك، وبين النظر والعمل. والعجيب أن انفصام الشخصية في بلادنا لا يقتصر على فئة ولا طبقة، فسواء كان الفرد عندنا من عِلية القوم أو أوسطهم أو أدناهم، فهو يعاني من هذه الشخصية المزدوجة، كلنا يعاني انقسام الشخصية، وشعارنا واحد توارثناه عن الأجداد قلوبنا مع علي، وسيوفنا مع معاوية ـ عقولنا في وادٍ وسلوكنا في وادٍ آخر!... انظر إليه وهو ينتقد (الوجودية) بحماسٍ دافق، مع أنه لم يقرأ حرفاً واحداً لأحد أعلامها، ولا كتاباً واحداً في شرحها وتفسيرها ـ وكذلك تراه يرفض (الماركسية) و(البرجماتية) و (المادية) إلخ.. بوصفها جميعاً مستوردة من الغرب (الكافر)! مع أنه يتحدث في ميكروفون الغرب، ويستقل سيارة الغرب، ويشاهد تلفزيون الغرب، ويسافر في طائرته ويقاتل بأسلحته، باختصار: هو مستهلك طوال حياته كلها لفكر الغرب، وما ينتجه من آلات وأدوات، لكنه لا يريد أن يفهم هذا الفكر نفسه .... إمام عبد الفتاح إمام