إن النشاط الاجتماعي والثقافي لفكرة ما، مرتبط في الواقع ببعض الشروط النفسية الاجتماعية التي بدونها تفقد الفكرة فاعليتها. ّّ... فالفكرة من حيث كونها فكرة ليست مصدراً للثقافة، أعني عنصراً صالحاً لتحديد سلوك ونمط معين من أنماط الحياة، فإن فاعليتها ذات علاقة وظيفية بطبيعة علاقتها بمجموع الشروط النفسية الزمنية، التي ينطبع بها مستوى الحضارة في المجتمع؛ وهو مستوى قد يتغير بطريقتين: فهو عندما يرتفع تعرض له في الطريق أفكار ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية، فإذا بهذه الأفكار تتقادم ثم تختفي؛ ففكرة حجر الفلاسفة التي كانت من أكبر دوافع الفكر العلمي خلال العصر الوسيط، هذه الفكرة قد ماتت منذ أعلن (لافوازييه) نتائج أبحاثه الكيميائية. وهو عندما يهبط تنقطع صلة بعض الأفكار بالوسط الاجتماعي ذاته، أعني أنها تنقطع من منابع خلقية وعقلية صدرت عنها، فتكسب هذه الأفكار وجوداً صناعياً غير تاريخي، وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي. ومن أمثلة ذلك أن تراث ابن خلدون قد ظهر في العالم الإسلامي، وهو مع ذلك لم يسهم في تقدمه العقلي أو الاجماعي، لأن هذا التراث في ذلك العصر كان يمثل فكرة لا صلة لها إطلاقاً بالوسط الاجتماعي. ومهما يكن من شيء، فليست الفكرة في تلك المرحلة هي التي تفقد وحدها معناها الثقافي وقدرتها على إبداع الأشياء، بل إن الشيء نفسه يفقد أيضاً مقدرته على إنتاج الأفكار. وخذ مثلاً على ذلك تفاحة (نيوتن) الشهيرة، وتخيل ما كان يمكن أن تؤديه لو أنها بدلاً من أن تقع على رأس ذلك الرياضي الكبير وقعت على رأس جده الذي عاصر عهد جيوم الفاتح؟ إن من المؤكد أنها لم تكن لتخلق فكرة الجاذبية، بل كانت ستكون حينئذ كومة صغيرة من الروث بعد أن يأكلها جد (نيوتن) بكل بساطة. فقد بان إذن أن الفكرة والشيء لا يكسبان قيمة ثقافية إلا في ظل بعض الشروط. مالك بن نبي