أرنستو ساباتو
إرنستو ساباتو، واحد من كبار كتاب الإسبانية في أمريكا اللاتينية. وأحد عمالقة الفكر والأدب في الأرجنت...
أمريكي
إرنستو ساباتو، واحد من كبار كتاب الإسبانية في أمريكا اللاتينية. وأحد عمالقة الفكر والأدب في الأرجنتين. ولد في ناحية «روخاس من أعمال محافظة بوينس أيرس، في عام 1911. نال شهادة الدكتوراه في الفيزياء، وعمل في ميدانها في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. درس الفلسفة، ثم هجر ميدان العلوم عام 1945 ليكرس حياته للأدب. ألف مجموعة أبحاث وكتب عن الإنسان وأزمة الصراع، ونال عدة جوائز، وما إن نشر عام 1948 رواية «النفق» حتى تُرجمت إلى معظم لغات العالم. ثم صدرت عام 1961 روايته الثانية «أبطال وقبور، فرفعته ليتبوأ مكانته المرموقة في مصاف كبار الكتاب، ليس في الأرجنتين وأمريكا اللاتينية وحسب، بل في العالم أجمع. انصرف إرنستو ساباتو» في السنوات الأخيرة، بعد أن تقدم به العمر وشح بصره، إلى الرسم، فاتخذ منه هواية له، وتخلى عن الكتابة نهائياً. وقد أقام أصدقاؤه في باريس معرضاً للوحاته عام 1989. إرنستو ساباتو» ليس عالماً وأدياً وفناناً كبيراً وحسب، بل مفكراً سياسياً يحظى باحترام سائر القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية في بلاده، وهذا ما أهله ليترأس - بعد سقوط الحكم العسكري في أواخر عام 1983 ـ اللجنة الوطنية للمفقودين، وكان التقرير الذي وضعته وثيقة اتهام صارخة في أيدي القضاة الذين مثل أعضاء المجالس العسكرية أمامهم أثناء تلك المحاكمة التي سميت بحق محاكمة العصر. عالم «ساباتو، الروائي، عالم غريب ومعقد، خفي ومتشابك، عجيب وغامض. فهو إلى جانب نوازعه الإنسانية، وشغفه بالهواجس الجنونية المبدعة، وأوهامه الغريبة عن العوالم الأخرى المشؤومة، والكائنات اللزجة المثيرة للاشمئزاز، وانشطار الشخصية الإنسانية، أو تعددها أو تمزقها، وأفكاره عن الشر، وخلاص الإنسان الذي لا يمكن إدراكه بالعقل الواعي والإرادة المباشرة، وإنما بقدرات أخرى تكمن وراء عالم المظاهر، نقول: إنه إلى جانب ذلك كله يتخذ من مجتمعه وأرضه، حاضراً وماضياً، معيناً لا ينضب للإبداع.. ولذلك جاءت روايته «أبطال وقبور» ملحمة رائعة ونشيداً «طقسياً»، ووثيقة اجتماعية، أخلاقية، نفسية، سياسية، تاريخية، لحقبة زاخرة من حياة بلاده. لقد أتيح لي أن أقضي عقداً من عمري في تلك البلاد التي عرفتها من قرب كدبلوماسي في جهاز سفارة بلادي، ثم كسفير لها، في حقبتين، كانت كل منهما زاخرة بأحداث جسام، أدت إلى تحولات عميقة في مسالك الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في الأرجنتين. انتهت الأولى بسقوط حكم الديكتاتوريات العسكرية وعودة «بيرون» إلى السلطة، بعد ثمانية عشر عاماً من حياة التشرد والمنفى، وانتهت الثانية بسقوط حكم المجالس العسكرية الاخونتا»، وعودة الحياة الديمقراطية للبلاد، بعد ثمانية أعوام من قمع زادت ضحاياه على عشرين ألف شاب وفتاة من تصدوا بصدورهم العارية وأفكارهم الناصعة لحكم لم تعرف البلاد لقسوته مثيلاً. وحرصاً مني على أن يبقى القارئ مشدودة إلى عالم ساباتو السحري والساحر، وجدت أنه لا بد من أن أعرض بإيجاز بالغ الجانب التاريخي، الذي نال، بإقحامه وإسقاطاته، نصيباً وافراً من هذه الرواية. بدأت ما تعرف اليوم بالجمهورية الأرجنتينية، تتكون كأمة مستقلة في مطلع القرن التاسع عشر 1810. فبعد الغزو النابوليوني لإسبانيا، وإلقاء القبض على ولي العهد (فرناندو السابع) ومنح شقيق بونابرت (خوسيه الأول) عرش إسبانيا، أخذت مختلف الأقاليم التابعة للتاج الإسباني تقيم مجالس حكومية موالية لولي العهد (فرناندو السابع. تشكل في بوينس أيرس عاصمة إقليم النهر الفضي آنذاك «مجلس حكومي» في 25 أيار/ مايو 1810، رفض الخضوع لسلطة (خوسيه الأول). ومنذ ذلك اليوم، بدأت البلاد تنعم بحكومات مستقلة. كانت العقود الأولى التي تلت تلك الأحداث زاخرة بالفوضى والاضطرابات، واتسمت ببروز قوتين سياستين متنازعتين دائماً همان الوحدويون والاتحاديون. مثل الوحدويون المصالح التجارية المرتبطة بتصدير المنتجات الأرجنتينية الزراعية والحيوانية، وكان معقلها الرئيسي مرفأ بوينس أيرس. ومثل الاتحاديون القوى المختلفة الأخرى في الأقاليم التي كان يقودها زعماء محليون، ذوو تأثير ونفوذ كبيرين في مناطقهم. ووضحت سمات هاتين القوتين خلال السنوات العشرين التالية، وتمخضت الصراعات الدموية بينهما، التي جرت البلاد إلى ما يشبه الحرب الأهلية، عن نشوء حزبين سياسيين هما حزب الوحدويين وحزب الاتحاديين، وتوالى على زعامة كل منهما شخصيات بارزة، وأدى الحقد الذي حكم العلاقات بينهما إلى حروب ومآس تناوب الوحدويون والاتحاديون على حكم البلاد. وكان لا بد الأحدهما، لكي تستتب له الأمور، من أن يلجأ إلى قمع قوة خصمه. وفي العام 1828 قام الجنرال «خوان لافاجي»، وهو من الشخصيات البارزة التي تولت زعامة حزب الوحدويين، بإعدام «مانويل دوريغو»، زعيم الاتحاديين بعد أن هزمه عسكرياً. أدى إعدام «دوريغو» إلى نشوب ثورة شملت أنحاء البلاد، قادها خوان مانويل روساس»، فاحتل بوينس أيرس، في أواخر عام 1828. وبدأت بذلك مرحلة جديدة من حياة البلاد استمرت عشرين عاماً، حيث أقام «روساس»، بعد أن جمع سائر السلطات في يده، حكومة ديكتاتورية، وقمع المعارضة، واعتبر جميع الوحدويين خارجين على القانون، وقضى على أي عصيان بالبطش والقسوة. كان «خوان لأفاجي» يتزعم الثورات ضد «روساس»، وكان يتعين على أنصاره بعد كل فشل، أن يهربوا من الأرجنتين، أو أن يواجهوا المطاردات والقتل. تركت تلك الحقبة بصماتها على الحياة السياسية في الأرجنتين حتى اليوم. فقد تم القضاء على حكم «روساس» عام 1852، ولجأ إلى خارج البلاد، بعد هزيمته في معركة اكاسيروس، التي ساهمت فيها قوى الحزب الوحدوي، إلى جانب الاتحاديين المنشقين، ووحدات برازيلية كبيرة أيضاً، لكن الأرجنتين ما زالت أسيرة أحداث تلك الحقبة من تاريخها، وما زال الأرجنتينيون منقسمين بين اروساس» والافاجي». يرى بعضهم أن الديكتاتور كان سياسياً عبقرياً وبطلاً قومياً، ويرى آخرون أنه لم يكن سوى حاكم مستبد، قاسي القلب. ولكن الطرفين يتفقان على أن تلك الحقبة لا يمكن أن تنسى، وأنها لا تزال تترك بصماتها على الحياة السياسية والفكرية في البلاد حتى الآن. وقد وجد الأدب الأرجنتيني فيها معيناً للإلهام لا ينضب، كما رأي كثير من الأدباء المعاصرين مثل ساباتو أنه يكاد يستحيل التغاضي عما جرى في تلك الحقبة التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الجماعي الأرجنتيني، ولا يشك أحد أبداً بأنها ما زالت تشكل القاعدة التي أرسيت عليها الانقسامات السياسية في البلاد، منذ منتصف القرن الأخير، وإن اختلفت التسميات.