كذلك فإنّهُ مِن أَكثَر التفسيرات شيوعاً لأزمة الاقتصاد والمُجتَمع في مِصر، ردّها إلى ظاهرة الهجرة إلى الدول النِّفطية، حيث يرى بعض من أبرز الاقتصاديين وعلماء الاجتماع أنّها هي المسئولة عن كثيرٍ من أمراض المجتمع المِصري الراهِنة، ولا يبدون أي استعداد للاعتراف بفضيلة واحدة أو أثر إيجابيّ واحد لها. فالهجرة في نظرهم مسئول أساسسي عن شيوخ الاستهلاك المظهري والترفي، وعن ازدياد الميل إلى الاستيراد، وعن ارتفاع معدلات التضخّم، وعن ازدياد التفاوت في الدخول، كما أنّها مسئولة عن تدهور القيمة الاجتماعية للعمل المنتج، وتفكك روابط الأسرة، وتحوّل القرية من الإنتاج إلى الاستهلاك، وعن الانصراف عن القضايا القوميّة والانشغال بالكسب المادي.. إلخ. ونحنُ مِن جانِبِنا لا يسعنا إلا الاعتراف بالآثار العميقة لظاهرة الهجرة على المجتمع المِصري، بل لعلّها من أهم ما حدث للمجتمع المصري خلال هذا القرن، ولكنّي أجد هذا التفسير بدوره تفسيراً مُتعجّلا وقاصِراً، وأميلُ هنا أيضاً إلى الاعتقاد بأنّ هُناك حلقة مفقودة في الربط بين ظاهرة الهجرة ومظاهر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في مصر. إن المُهاجِر شخصٌ ينتمي إلى شريحة أو طبقة اجتماعية مُعيّنة، والتغير في سلوكه الناجم عن ارتفاع دخله ومدخراته خلال الهجرة وبعدها إنما تحكمه خصائص تلك الشريحة أو الطبقة التي ينتمي إليها ودوافعها وطموحاتها. كذلك فإنّ أثر الهجرة على سلوك من يُهاجِر إنما تحكمه أيضاً طبيعة الطبقة أو الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وبواعثها وطموحاتها. لا يجوز إذن القفز مُباشرة من واقعة الهجرة إلى السلوك الاجتماعي العام دون التعرض لما يحدث من تغير في العلاقات الاجتماعية بين الطبقات وفي المركز النسبي لكل منها. جلال أمين