هنالك بعيدا عن المدينة وضوضائها .. على شط النيل النائح في سيره على رفات العذارى المبعثر في أعماقه ... قصدت إلى الحديقة في صباح يوم منير .. نبذت عني عادات المدينة ؛ فافترشت الثرى كما يفترش سكان البادية رمال الصحراء ... لم أر حولي سوى سيدتين انجليزيتين مع احداهما ثلاثة اطفال .. وان هي الا دقائق حتى اقترب مني احد هؤلاء ، وهو صبي في الرابعة من سنواته . فناديته قائلة : تعال الي ايها الصغير .. فدنا واجفا باسما فسالته : الا تجلس على ركبتي ؟ فجلس صامتا ، ثم سالت الطفل : - ما اسمك ؟ - روبرت نظرت في وجهه فاذا هو اية من ايات الجمال الانجليزي : وجه شفاف كانما هو عصير ورد وياسمين تجمد فنحت وجها بشريا .. وعينان لهما زرقة عميقة كزرقة البحار بعيد الغروب فقلت للطفل : من اين اتيت بعينيك ياروبرت ؟ ومن اعطاك زرقتهما ؟ اجاب : ماما - لم يفهم غير كلمتي من اعطاك قلت : قرت عينا امك بك . واي عمل يعمل ابوك ؟ قال - ولثاغته اللطيفة تتدحرج على لسانه متعثرة بشفتيه - : بابا ضابط وانا عسكري مثل بابا .... فنظرت اليه وخاطبته همسا : هذه اليد التي تنقل اليوم ما حفظته من اشارات الملائكة .. هذه اليد التي لاتمتد الا لمداعبة الندى والازاهير هذه اليد الصغيرة الطرية سوف تصير يد جندي سوف تقبض على السيف والحربة وتطلق النيران من افواه المدافع سوف تفتك بحياة البشر اشرارا كانوا ام ابرارا عما قريب تعرف ما هي الميثولوجيا ، وماهي النصرانية ، وماهو الاسلام عما قريب تفهم التعصب الديني والجنسي والعلمي والعائلي والفردي عما قريب تعلم ان الانسجة التي تخاط منها اثواب العرس تصنع منها اكفان الشهداء عما قريب ترى الاقوام يفتكون بالاقوام لانهم محتشدون حول قطعة نسيج صبغت بلون غير لون نسيجهم . عما قريب ترى كل هذا يا روبرت وتشترك فيه لانك عسكري مثل بابا انفصلت عنه بلاقبلة ولا تحية .. انا لم اقبله لانني وقفت امام رجل الغد منه وهو لم يقبلني لانني لم اعطه كعكا ولا حلوى.
مي زيادة