هناك فن بديعي يقال له فن التهذيب وقد أطال فيه علماء هذا الفن... وعبر عنه أبو تمام في وصيته للبحتري، نقل عن أبي عبادة قال: كنت في حداثتي أروم الشعر وأرجع فيه إلى طبع سليم، ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب، حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبيدة، تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر، ولا تعمل نظما ولا نثرا عند الملل؛ فإن الكثير منه قليل، والخواطر ينابيع إذا رفقت بها جمت، وإذا عنفت عليها نزحت، وترنم بالشعر وقت عمله؛ فإنه يعين عليه وقد يتخيل الشاعر الشعر الجيد فيمكنه مرة ولا يمكنه أخرى، وإياك وتعقيد المعاني، واجعل المعنى الشريف في اللفظ اللطيف؛ لئلا يتلف أحدهما الآخر، ومتى عصى الشعر اتركه ومتى طاوعك عاوده، وروّح الخاطر إذا كلّ، واعمل في أحب المعاني إليك وفي كل ما يوافقه طبعك، فالنفوس تعطي على الرغبة ولا تعطي على الإكراه، واعمل الأبيات متفرقة على ما يجود به الخاطر، ثم انظمها في الآخر، وحصل المبدأ والمقطع والمخرج، فهو أصعب ما في القصيدة، وميّز بفكرك محطّ الرسالة ومصبّ القصيدة، فإنه أسهل عليك، وانظمها أولا، وهذّبها آخرا