لا يكتفي بهذا التفسير النظري الخالص ، وإنما يحاول أن يفسر لنا مصدر الجهل الذي يورطنا في الشر والإثم . وتفسيره لهذا الجهل بديع قوي ، فيه شعر ، وفيه فلسفة معًا . فالنفس عند أفلاطون مزاج يتألف من قوى ثلاث : إحداها هذه القوة العاقلة التي تتفهم الأشياء وتتبينها وتنتقل من المحسوس إلى المفهوم ومن المركب إلى المجرد ، حتى تنتهي إلى الحقائق الثابتة ، ثم إلى حقيقة الحقائق أو فكرة الخير أو الإله . والثانية : هذه القوة الغضبية التي وكل إليها الدفاع عن الحياة والاحتفاظ بها ، وهي التي نسميها الشجاعة ، وهي التي تحملنا على أن نغضب ونثور كلما احتجنا إلى الغضب والثورة . والثالثة هذه القوة الشهوية ، التي تعنى بوجود الجسم المادي ؛ لأنها تحمله على إرضاء شهواته المختلفة : من الأكل والشرب وما يتصل بهما من أنواع اللذات . ولكل قوة من هذه القوى الثلاث مركزها في الجسم . فأما الأولى فمستقرها الرأس ، وأما الثانية فمستقرها الصدر ، وأما الثالثة فمستقرها البطن . والنفس عند أفلاطون تشبه عربة يقودها جوادان أصيلان : أحدهما الغضب ، والآخر الشهوة ، أما سائق الجوادين فهو العقل . وإذًا فلا بد من أن يوجد بين هذين الجوادين توازن في القوى وتوافق في الحركة من جهة ، ولا بد من أن يوجد بينهما وبين السائق توازن آخر يضطرهما إلى الخضوع له والإذعان لأمره من جهة أخرى . فإذا اختل التوازن بين الجوادين أو بينهما وبين السائق ، فذلك مصدر الشر الذي يتورط فيه. قد تسرف القوة الغضبية حتى تسيطر على القوتين الأخريين ؛ وإذًا فنحن متهورون مندفعون . وقد تسرف القوة الشهوية ؛ وإذًا فنحن عبيد اللذة وأرقاؤها . وعلى هذا النحو يرى أفلاطون أن الفضيلة حقًّا إنما هي مزاج ينتج من التوازن بين هذه القوى بحيث يستطيع الجسم أن يحيا ويحتفظ بحياته دون أن يحول بين النفس وبين الطموح إلى الخير والسعي إلى الوصول إليه. طه حسين