أحدثك في كلمات موجزة عن حال العقل اليوناني أيام سقراط ، لتستطيع أن تفهم فلسفة سقراط وما تنشأ عنها من المذاهب المختلفة . أما الحياة العامة الأثينية ، فكانت متأثرة بشيئين مختلفين : أحدهما النظام الديمقراطي المتطرف الذي يقوي حرية الفرد إلى أقصى حد ممكن ، ويجعل شخصيته بارزة تستطيع أن تعاند الدولة وتنتصر عليها أحيانًا . والثاني هذا الاختلاط الشديد بين الشعوب المختلفة المتباينة الذي كان يبعث على الحياة العقلية القوية ويجعلها مضطرمة دائمًا ، والآخر كان يبعث على اصطدام المنافع وتنازعها وتعقدها إلى حد عظيم . أضف إلى هذين السببين ما أشرت إليه من إفلاس المذاهب الفلسفية الأولى تنته إلى هذه النتيجة ، وهي أن العقل اليوناني في ذلك العصر كان قد وصل إلى حال من الشك لم يعرفها من قبل : شك في الفلسفة التي عجزت عن تفسير الكون ، وشك في الدين الذي أصبح من السخف بحيث لا يستطيع أن يؤمن به عقل يحترم نفسه ، وشك في الحياة السياسية التي اشتد فيها الاضطراب وعبثت بها الحروب من جهة ، والثورات من جهة أخرى . والأهواء الشخصية من جهة ثالثة ، وشك في النظام الاجتماعي الذي لا قيمة له إذا لم يعتمد على فلسفة قوية ، أو دين متين ، أو سياسة ثابتة — شك في كل شيء وحرص على المنفعة الخاصة التي يمكن أن يؤمن بها الفرد حقًّا ؛ لأنه يمسُّها ويستمتع بها ويسعى إليها . في هذه الحال نشأت فلسفة السوفسطائيين (Sophistes) التي كانت في حقيقة الأمر مرآة صادقة للحياة الاجتماعية ، والتي كانت تنكر كل شيء في نفسه ، ولا تعترف إلا بشيء واحد وهو المنفعة الفردية ، والتي كان زعماؤها يطوفون في الأرض كما كان يفعل الشعراء القدماء يحملون الشك والإنكار ، ويخدمون المنفعة الفردية ، ويعلمون الفرد كيف يلبس الحق بالباطل ، وكيف يعبث بعقول القضاة في المحكمة ، وبعقول الجماعات في المجالس السياسية العليا ، وكيف يعبث بعقول الأفراد ومنافعهم فيما يكون بينه وبينهم من حوار .طه حسين