وكان الصبي يبصر ما يرتع فيه أهل القصر من عزٍ ورفاهيةٍ، ويرى ما ينعم به ابن صاحبه من متعٍ ولذائذٍ، فيحس في نفسه ألم الفاقة، وبؤس الحرمان. وفي ذات يومٍ أقبل على أبيه يسائله، وقد اغرورقت عيناه بالدموع: - لم نحن فقراء يا أبتاه، ولم لا نملك قصراً كهذا؟ فأطرق العجوز لحظةً، ثم رفع رأسه في هدوءٍ وأجاب: - هكذا خلقنا الله يا بني. - ولم خلقنا الله هكذا؟ - هذه حكمته. وتردد الصبي برهةً، ثم قال: - ولكن يا أبتاه لا أستطيع أن أجد في ذلك أي حكمةٍ. فلم يعطيهم الله كل شيئٍ، ويحرمنا كل شيئٍ؟ ماذا كان عليه لو أعطانا بعض ما عندهم فأسعدنا ولم يشقهم؟ - ليست السعادة في المال يا بني، فإن المال يفسد النفوس، والفقر يطهرها وينقيها من الأدران، فيكون نصيبنا الجنة، ونصيبهم الجحيم. لنا الآجلة، ولهم العاجلة، و<<مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا>>. وصمت الصبي لحظةً، وقد بدا عليه التفكير العميق، ثم عاد يتساءل في حزنٍ: - مساكينٌ هؤلاء القوم! ولكني مع ذلك لم أتبين حكمته بعد لأنه لو كان قولك صحيحاً يا أبتاه فما ذنب هؤلاء الناس يعطيهم الله المال فيفسد نفوسهم، ثم يلقي بهم إلى الجحيم ويذهب بنا إلى الجنة؟ أما كان من الأفضل أن يعطينا بقدرٍ، ويعطيهم بقدرٍ، فلا يفسدنا ولا يفسدهم، ويطفئ جحيمه ويذهب بنا جميعاً إلى الجنة؟ وضاق العجوز ذرعاً بفلسفة الصبي، ورغب أن يضع حداً للنقاش حتى لا يقودهما إلى الكفر، فأجاب الصبي: - <<إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ>> يوسف السباعي