لقد سنحت لي الفرصة لأقوم بتجربة مع فريق من العمال الجزائريين الأميّين، حين اضطلعت بمهمة تعليمهم القراءة والكتابة في فرنسا عام (1938). وكلما تقدمت التجربة شيئاً فشيئاً والتي تابعتها تسعة أشهر كنت أرى وجوه تلاميذي تتغير. كانت الوجوه ذات وميضٍ وحشيٍّ، وقد تأنّست تدريجيّاً. لقد اختفى بريقها الحيوانيُّ ليحل محلَّها شيءٌ ما، ينمُّ عن فكرةٍ داخليةٍ، عن حضور فكرةٍ. من ناحية أخرى، فالشفاه أطبقت أو ازداد تقاربها. الرأس الذي تلقى فكرةً قد شغل عضلات الصدغ؛ التي تعمل كنابض يشدّ نحو الأعلى الفك الأسفل الذي يغلق الفم. حينئذ تتغيَّر ملامح الوجه بطريقة ظاهرة، يمكن على ما أعتقد قياسها بالنسبة للَّذين يهتمُّون بالعلاقات الجسديَّة النفسيَّة. وبالإمكان أن نتوصّل إلى الملاحظة نفسها بمقارنة مباشرة بين ملامح وجه أخوين يختلف المستوى الفكريُّ عندهما. وهذه الحالة مألوفةٌ خاصةً في المناطق الريفية الجزائرية؛ حيث تكون فرص التعليم موزعةً بطريقةٍ غير متساويةٍ، حتى داخل الأسرة الواحدة. فنحن في نجد فيها مثلاً أخوين أحدهما متعلّم والآخر أمِّيٌّ. صحيح أنه يوجد بينهما التشابه الذي يشير إلى أصلهما الوراثي المشترك، ولكن توجد خارج ذلك فوارق بارزةٌ في النظرات، وملامحِ الوجه، التي تنبئ عن اختلاف في اطراد الاندماج الاجتماعي. وبوجه عام ففي سكان بلد ما هنالك النموذج الريفي، والنموذج المديني يميز بينهما علماء الاجتماع ببعض تفاصيل الملبس. وحتى لو كان رجل المدينة في ملابس ريفيَّة فإنَّه يسهل التعرف عليه إذ يبدو كريفيّ مزيَّفٍ. ورجل الريف في ملابس الأعياد يبدو مدنياً مزيفاً. والشقيقان من أصل وراثيٍّ واحد وبيئة ريفية واحدة يتمايزان كذلك بعلاماتٍ واضحةٍ جليةٍ إذا كان أحدهما قد تردَّد إلى المدرسة دون أن يفعل الآخر ذلك، فدرجة اندماج الفرد الذي يضع قدمه في عالم الأفكار تتحدد بهذه العلامات. ― مالك بن نبي, مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي 0 likes Like ن مجتمع ما بعد التحضر ليس مجتمعاً يقف مكانه، بل هو يتقهقر إلى الوراء بعد أن هجر درب حضارته وقطع صلته بها. ولم تفت ملاحظة هذه الظاهرة أحد المؤرخين فوصفها في أسىً بقوله: ((وكأني بالمشرق (الإسلامي) قد نزل به ما قد نزل بالمغرب، ولكن على مقدار ونسبة عمرانه وكأنما لسان الكون ينادي في العالم بالنوم والخمول، فأجاب)). إنّه ابن خلدون الذي دوّن بعد قرن من سقوط بغداد وقبل قرن من سقوط غرناطة هذه النقطة الخاصة بانفصام دورة الحضارة الإسلامية؛ النقطة التي ابتدأ منها عصر ما بعد الموحِّدين، أي عصر التخلُّف الحضاريِّ في العالم الإسلاميّ. مالك بن نبي