يقول توينبي المؤرخ المعروف: أن الصفة الرئيسية التي تمير المدنية عن الحياة البدائية هي الإبداع، فالحياة البدائية يسودها التقليد بينما الإبداع يسود حياة المدنية. وحب التقليد هو الذي جعل البشر يعيشون عيشة بدائية على مدى ثلاثمائة ألف سنة تقريباً. لقد كانوا قانعين طول هذه المدة بما ورثوا عن الآباء والأجداد من عادات وأفكار. فلما حل الشقاء ببعضهم إثر إنزياح العصر الجليدي وانسدت في وجوههم سبل الرزق، حاروا وفكروا، وأخذوا يجهدون أذهانهم للبحث عن وسيلة جديدة، وبهذا انفتح بين أيديهم باب التحضر الصاخب. من الممكن القول بأن المدنية والقلق صنوان لايفترقان. فالبشر كانوا قبل ظهور المدنية في نعيم مقيم. لايقلقون ولايسألون: لماذا. كل شيء جاهز بين أيديهم قد أعده لهم الآباء والأجداد. فهم يسيرون عليه ولسان حالهم يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. إن الأساس الذي تقوم عليه المدنية كما يقول تويبني هو الكدح والشقاء والمعاناة. فالمناطق التي يسهل فيها اكتساب القوت، أو يلتقط فيها إلتقاطاً، لا تستطيع أن تنتج مدنية إذ هي تعود الإنسان على الكسل والتسليم بالقدر والتلذذ بالأحلام. إن المدنية لها ثمن باهظ فهي ربح من ناحية وخسارة من ناحية أخرى. والذين يريدون السير في سبيل المدنية يجب أن يفهموا بأنهم مقبلون على الألم والقلق والعناء، فإذا أرادوا البقاء على ماكانوا فيه من طمأنينة وراحة نفسية وجب عليهم أن لايسكلوا هذا الطريق الخطر المتعب. ويأتينا توينبي بفلسفة ساخرة في هذا الصدد حيث يقول: أن الحكاية التي تذكرها التوراة حول إغراء الشيطان لآدم واخراجه من الجنة هي في الواقع أقصوصة رمزية تشير إلى ظهور المدنية وخروج الإنسان من طور الحياة البدائية إلى طور المدنية.
علي الوردي