يعزو كارفر التنازع البشري، كما ذكرنا من قبل، إلى سببين لا ثالث لهما. اولهما استحالة إشباع الحاجات البشرية كلها، وثانيهما هو حب الإنسان نفسه وتقديره لها أكثر مما تستحق. والظاهر ان هذين السببين متلاحمان. أو بعبارة أخرى، وجهان لحقيقة واحدة. فالإنسان يتكالب على الأشياء لأنه يرى نفسه أحق بها من غيره. فهو قد لا يريد الشيء بحد ذاته، ولكنه يتهافت عليه حين يرى بأن أقرانه يتهافتون عليه. فالتكالب وتقدير الذات صارا بهذا الاعتبار متكاملين يدعم أحدهما الآخر. أي أن كل منهما سبب ونتيجة للآخر في آن واحد. ولو فرضنا جدلا اننا استطعنا أن نشبع جميع الحاجات البشرية، فإن البشر يظلون في تكالب وتنازع، لأن كل واحد منهم يظن انه أولى من أقرانه بالتقدير أو الفضل أو المكانة. ويظل الإنسان يصرخ لماذا أعطيتني أقل من رفاقي؟ فهل هم خير مني؟. فإذا أعطيت الجميع عطاءا متساويا، قام الوجهاء والكبراء واحتجوا عليك قائلين: كيف تساوينا بمن هو دوننا؟ اما إذا أعطيت الناس عطاءا متفاوتا حسب فضائلهم أو مراتبهم الاجتماعية، قام الواطئون واحتجوا صارخين: الناس سواسية كأسنان المشط. حدث هذا في خلافة عمر وخلافة علي بن أبي طالب. فقد اعطى الناس عمر عطاءا متفاوتا حسب منزلتهم في الدين وجهادهم السابق في سبيله. فغضبت عليه قريش لأنها كانت آخر الناس إسلاما وأقلهم سابقة فيه. وبقيت قريش تكره عمر وتكره خلافته حتى قتل. ويقال أنها هي التي حرضت على قتله أو تآمرت عليه. أما علي بن أبي طالب فقد أعطى الناس جميعا على حد سواء لا فرق فيه بين سيد ومسود أو بين مسلم قديم ومسلم حديث. فكرهه الرؤساء والوجهاء وانفضوا من حوله ثم جروا وراءهم أتباعهم كما ذكرنا ذلك في فصل سابق. وجاء معاوية فلم يعط الناس على أساس المساواة كما فعل علي، او على أساس المفاضلة كما فعل عمر. إنما أخذ يداور ويراوغ. يغمز لهذا بعين ويحملق لذاك بعين أخرى. ونظر إلى أولئك الذين يأمل منهم منفعة أو يخشى مضرة فأرضاهم وترك بقية الناس في حرمان. إنها سياسة ظالمة ولكنها تسكت الناس فلا يحتجون ولا يصرخون. فالاحتجاج والصراخ لا يجيدهما إلا أولوا السيوف الصقيلة والألسن البليغة. ومعاوية قد أرضى هؤلاء وأولئك وأغدق عليهم من الأموال ما أسكتهم. أما بقية الناس فهم كالأغنام لا يحتجون ولا يصرخون، وهم ينعقون مع كل ناعق. ولذا تركهم معاوية يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. ومما يجدر ذكره أن هذه السياسة لا تسكت الناس زمنا طويلا. فلا بد لهؤلاء الأغنام من يقظة يدركون بها حقوقهم وهنا تبدأ المشكلة في شكل جديد. لقد أسكت الناس معاوية في زمانه لأنه كان من الدهاة الماكرين الذين يستطيعون اكتشاف منابع الضرر والنفع من كل إنسان. فلما مات معاوية وحل محله ابنه الرقيع أخذ الصراخ والاحتجاج يرتفعان مرة اخرى. ليس من الممكن إقناع البشر أن يصبروا على حالهم زمنا طويلا. فالحضارة البشرية لا بد أن تستمر في سيرها الدائب، ولا بد لها من وقود تحترق به نفوس البشر. علي الوردي
اقتباسات أخرى للمؤلف