إن من الظلم حقاً أن نعاقب الناس على عقائدهم التي لُقنّوا بها في نشأتهم الاجتماعية. والمنطق القديم مبني على أساس أن الإنسان يعتنق عقيدته بإرادته، وأنه يصل إليها عن طريق التفكير والرؤية، وهذا خطأ يؤدي إلى الظلم في كثير من الأحيان. الواقع أن الإنسان يؤمن بعقيدته التي ورثها عن آبائه أولاً ثم يبدأ التفكير فيها أخيراً، وتفكيره يدور غالباً حول تأييد تلك العقيدة، ومن النادر أن نجد شخصاً يدل على عقيدته من جراء تفكيره المجرد وحده، فلا بد أن تكون هناك عوامل أخرى، نفسية واجتماعية، تدفعه إلى ذلك من حيث يدري أو لا يدري. يصف القرآن عقول الناس بأنها مغلّفة وأنها عمياء ويؤكد على ذلك في كثير من آياته وهو يقول: ( إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ويقصد القرآن بالقلوب العقول كما يعرف ذلك كل متتبع لأساليب اللغة العربية. وكان القرآن يهيب بالناس ويهتف بهم المرة بعد المرة قائلاً لهم: ألا تفكرون.. ألا تعقلون.. ألا تبصرون، والناس يسمعون هذا ولا يفهمون. وهؤلاء الناس أنفسهم لم يكادوا يرون النبي منتصراً تحف به هالة المجد والقوة حتى انثالوا عليه من كل جانب يعلنون دخولهم في الدين الجديد ويهتفون بملء أفواههم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله). وكلما ازداد الإسلام انتصاراً ازدادوا به إيماناً، حتى رأيناهم أخيراً يضطهدون من يخرج عنه بمثل ما كانوا يضطهدون من كان يدخل فيه أول الأمر. نرى المسلمين اليوم يذوبون حباً بالنبي ويتغنون في مديحه في كل حين، وهم إنما فعلوا ذلك لأنهم ولدوا في بيئة تقدس النبي محمداً وتبجله، ولو أنه ظهر بينهم اليوم بمبادئه التي قاومه عليها أسلافهم لما قصروا عن أسلافهم في ذلك فالناس كالناس والأيام واحدة كما قال الشاعر العربي .
علي الوردي