الإنسان مجبول أن يرى في نفسه الفضل أو الامتياز على أقرانه في أمر من الأمور. فهو إذا وجد الناس يحترمون أحد أقرانه لصفة ممتازة فيه، حاول أن ينافسه فيها. فإذا عجز عن ذلك ابتكر لنفسه المعاذير وأخذ يقول بأن تلك الصفة لا أهمية لها، وأن هناك صفة أخرى أهم منها وأنفع للمجتمع. ثم يحاول أن ينسب هذه الصفة الأخرى لنفسه لكي يشعر من جراءها بالامتياز على وجه من الوجوه. والناس لا يحبون الشخص الذي يمدح نفسه. وهم مؤمنون بالمثل القائل مادح نفسه كذاب. فكثيرا ما يمدح شخص نفسه وهو صادق فيما يقول، ولكن الناس ميالون إلى كراهيته والحط من قيمته ولو كان صادقا. وسبب هذا أن كل واحد من الناس يحب نفسه ويعجب بها. فإذا رأى غيره معجبا بنفسه أيضا حنق منه كأنه وجد فيه منافسا أو غريما. لا يروق في عين الإنسان ان يرى قرينا له متفوقا عليه في شيء. إنه يعد نفسه مركز الدنيا ومطمح الأنظار. فإذا وجد غيره صار مطمح الأنظار بدلا منه شعر بالحسد له وود أن يحتقره وينزل من عليائه. وهو قد يكره كل من يحترم ذلك القرين أو يشيد بفضله. وأرجو أن يفهم القارئ بأن هذه هي طبيعة الإنسان في كل مكان شرقا وغربا. وقد يحلو لبعض المتفرنجين أن يقول: بأن التحاسد غير موجود في بلاد الغرب. وهذا خطأ فالغربيون بشر مثلنا. ولكن الحسد عندهم يقل لا سيما في المدن الكبيرة. ومنشأ ذلك أن المنافسة في المدينة الكبيرة تجري على نمط غير شخصي. فالناس هناك يتنافسون من غير أن يعرف بعضهم بعضها معرفة شخصية. ومعنى هذا أن المتنافسين ليسوا أقرانا ناشئين منذ صغرهم في محلة واحدة. ولذا نجدهم يتنافسون دون يشعروا بشيء من الحسد. أما في المدينة الصغيرة أو القرية، فالناس يعرف بعضهم بعضا، وهم في طفولتهم كانوا يلعبون معا. ولهذا يصعب على أحدهم ان يرى قرينا متفوقا عليه في كبره بينما كان يلعب معه في صغره. من هنا جاء المثل القائل: مغنية الحي لا تطرب فمغنية الحي تكون ذات صوت بشع عند قريناتها. وبنات الحي يطربن لمغنية أجنبية ولو كان صوتها أقل جودة من قرينتهن. فالحسد هو السبب في هذا ولا مناص من الحسد بين الأقران. وهناك مثل آخر يشير إلى ما يشبه هذا المعنى، إذ يقول: عدو المرء من يعمل عمله. وهذا المقال يصدق على أولي المهنة الواحدة إذا كانوا متجاورين يعملون في مكان واحد او كانوا من منشأ واحد. أما إذا كانوا متباعدين غير متعارفين فالحسد بينهم يكون قليلا أو نادرا. وإذا نظرنا إلى أساتذة جامعة كبيرة من جامعات الغرب وجدنا التحاسد بينهم أقل مما هو موجود في كلية صغيرة في بلد محدود. فالأساتذة هناك قد جاءوا من أماكن شتى، حيث لا يشعر أحدهم أن زملاءه ينافسونه في نظر أقربائه أو أبناء محلته. أما في الكلية الصغيرة فالأساتذة قد يعرف بعضهم بعضا منذ أيام الدراسة الأولى. وهم إذن في منافسة حادة أمام أهل البلد. ويريد كل منهم أن يبز أقرانه في محاضراته أو مؤلفاته أو ما أشبه وتعال انظر حينئذ إلى الحسد المتغلغل في أعماق قلوبهم. ولا يكاد أحدهم يتفوق في شيء حتى يمط أقرانه شفاههم استهجانا به ويصفونه: أنه مشعوذ ثم يأخذون بابتكار البراهين في سبيل أن يجعلوا لأنفسهم ميزة عليه. وهذا يحدث بين رجال الدين أيضا لا سيما إذا كانوا يعيشون في بلد واحد يتنافسون على نيل إعجاب أهل البلد أو نيل زكاة أموالهم! وقد صار التحاسد بين رجال الدين مضرب المثل. فأحدهم قد يقتل الأنبياء والأولياء في سبيل أن يغالب قرينا متفوقا عليه.
علي الوردي