فالمدنية معناها التكالب والتزاحم واستغلال الناس بعضهم لبعض فظهر من بين الناس اذن طبقة مترفة تملك عدة قمصان، بينما يبقى كثير من الناس لا قمصان لهم والناس قلقون عند ذاك إذا جاعوا وإذا شبعوا. قيل: إن المتمدن إذا جاع سرق وإذا شبع فسق، وهو في كلتا الحالتين شقي لا يقف شقاؤه عند حد. إنه يركض وراء هدف، فإذا وصل إليه نسيه وابتكر له هدفاً اخر يركض وراءه. فهو يركض ويركض وراء سراب، إنه يجدد ويبدع في كل يوم ولكن الجديد يصبح عنده قديماً في اليوم التالي. اما البدائيون الذين يعيشون على الفطرة فهم اذا شبعوا حمدوا ربهم واذا جاعوا حمدوا ربهم كذلك. ومزيتهم انهم يشبعون جميعا ويجوعون جميعا. فليس بينهم متخوم ومحروم فالتنافس ممنوع عندهم إلا فيما يجلب منفعة للجميع. اما التكالب الفردي فهم يعدونه عيبا لا يجوز لانسان ان يتصف به. وجدنا هذا واضحاً عند البدو الواغلين في الصحراء الذين لم يتأثروا بعد برذائل المدنية. ويحدثنا ويل دورانت أنه موجود كذلك عند البدائيين الذين يعيشون في الغابات. فلا يوجد بينهم جائع في الوقت الذي يوجد طعام في مكان ما من القرية. وإذا حصل أحدهم على غنيمة وزعها حالا على من كان بقربه يقال أن أحد السواح أعطى بدلة كاملة من الملابس لأحد البدائيين، ثم وجد بعد وقت قصير أن القبعة صارت حصة رجل منهم, والسراويل ذهبت لآخر, والمعطف عند ثالث... وسمع أحد البدائيين في جزيرة ساموا عن حالة الفقراء في لندن من فم سائح مر به، فتعجب البدائي عجباً شديداً وقال: كيف يمكن أن يجوع هؤلاء الفقراء؟ أليس لهم أقرباء أو عشيرة؟ إنه لايستطيع أن يتصور إنساناً يجوع وحوله أناس قد شبعوا. أما في المدنية فهذا أمر مألوف لا يعجب منه أحد. وهذا يؤدي إلى التنازع طبعاً، فتنشأ عنه الحركة الاجتماعية التي تدفع بالمجتمع إلى الأمام.
علي الوردي