وبينما العمال راجعون من مزرعة بعيدة -وقد سارت زينب إلى جانب حامد وجعلت تحدثه حديثها المعتاد، وهو سعيد تائه في لذته بسماعها، وتائه في تلك الساعة بعد غروب الشمس حين الأشياء أشباح لا تكاد تتميز- أحست به يمدّ يده يطوّق بها خصرها ويجذبها نحوه، فتركت نفسها له لحظة حتى إذا أحست بشفتيه تقبلان شفتيها، وشعرت بكل ما في قبلته من الحرارة، انبرمت مرة واحدة مبتعدة عنه، ثم مالت برأسها نحوه وقالت: - أختي تشوفنا وبعدين تقول لأبويه..! لكن حامدًا أحسّ بقشعريرة تسري في كل جسمه، كانت أولًا قشعريرة الرغبة، ثم انقلبت مرة واحدة قشعريرة العظمة والترفع. ولقد خيل إليه كأن الماضي الطويل المملوء بالعقائد القومية والعادات يتجمّع كله ليسقط بحمله على رأسه. وصعدت إلى وجهه حمرة الخجل، وابتعد عن صاحبته بعض الشيء، وراح في خيالات مبهمة، ولم يعد يعلم إن كانت زينب ساكتة أو هي تتكلم. فلما ترك العمال عند مدخل البلد ذهب إلى دار الضيافة، فشرب قهوة مع الموجودين، ونسي بذلك ما كان منه. أما زينب فقد أحدثت هذه القبلة في نفسها سرورا، وجاءت لها بأحلام شتى شغلتها عن حديث حامد طول الطريق. ومهما تكن هاته النفوس الفلاحة تهتر عند ذكر كلمة العِرْض، فإن النفس الإنسانية وما رُكِّب فيها بالفطرة من حب تخليد النوع أقوى كثيرًا من العقائد العامة، ما دام عملها لم يخرج بعد إلى الظهور يكون موضع حكم الناس عليه. فما دام الواحد مع نفسه يحدثها، وينظر في آمالها ورغائبها، فهي تطلب دائما ما تدفعها الطبيعة لطلبه؛ تطلب الطعام ساعة الجوع والماء ساعة العطش وهَلُمَّ جرًّا. فإذا جاءت لحظة يقضي لها الواحد فيها رغائبه رجع إلى تقدير آخر غير تقديره الخاص، فلم يبح لنفسه إلا ما يسمح به الوسط الذي يعيش فيه؛ ولهدا كان الإنسان في نفاق دائم يزيد مقداره وينقص بمقدار الحرية التي يهبها الوسط لإقناع غاياته وأغراضه. محمد حسين هيكل