لقد أدركتت يومئذٍ (وتحققت اليوم) أن الحياة مثل الناعورة. هل تعرفونها؟ دولاب كبير علقت فيه دلاء وسطول، يكون السطل منها ملآن وهو فوق (كما كنا على عهد أبي) فينزل فارغاً إلى الحضيض (كما نزلنا بعده). فمن كان قصير النظر ظن أنها النهاية، ومن دقّق وحقّق رأى الدولاب يدور، فما نزل يصعد وما فرغ يمتلئ ... وإن هذه هي الدنيا: ارتفاع وانخفاض، امتلاء وفراغ ، فقره بعده عنى وغنى قد يأتي بعده الفقر، لا العالي يبقى فوق ولا الواطي تحت، ولا يدوم في الدنيا حال، والدولاب دوّار. الأحمق يظنها حظوظاً ومصادفات والعاقل يدرك أنه عمل متقَن، فلا البناء الذي يحمل الناعورةَ أقامه الحظ ولا حرَكتها بنت المصادفات، لكنها هندسة محكمة وحساب دقيق... ما يُعطى أحد في هده الدنيا ولا يُحرم ولا يعلو ولا يهبط إلا لحكمة بالغة وأمر مقدر، سطره مقدّر في كتاب. فمن اهتدى إلى هذه الحقيقة واطمأن إلى أنه عادل لا يظلم، حكيم لا يعبث، سكَنَ واستراح. ومن أنزل غضبه بخشب الناعورة أو بحديدها، يحسب أنها هي أفرغت إناءه وأراقت ماءه، عذب نفسه بها ولم ينل منها منالاً.. علي الطنطاوي