أراد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه هذا الدرس فى الأناة وضبط النفس ٬ فروى أن أعرابيا جاءه يطلب منه شيئا ٬ فأعطاه ثم قال له: أحسنت إليك؟ قال الأعرابى: لا ٬ ولا أجملت ! فغضب المسلمون وقاموا إليه ٬ فأشار إليهم أن كفوا.. ثم قام ودخل منزله ٬ فأرسل إليه وزاده شيئا ٬ ثم قال له: أحسنت إليك؟؟ قال نعم ٬ فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا ٬ فقال له النبى: إنك قلت ما قلت آنفا ٬ وفى نفس أصحابى من ذلك شيء ٬ فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدى حتى يذهب ما فى صدورهم عليك !! قال: نعم. فلما كان الغد جاء ٬ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : إن هذا الأعرابى قال ما قال فزدناه. فزعم أنه رضى ٬ أكذلك؟ قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . فقال رسول الله مثلى ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزودوها إلا نفورا ٬ فناداهم صاحبها ٬ فقال لهم: خلوا بينى وبين ناقتى ٬ فإنى أرفق بها منكم وأعلم. فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض ٬ فردها حتى جاءت ! واستناخت ٬ وشد عليها رحلها ٬ واستوى عليها . وإنى لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال ٬ فقتلتموه ٬ دخل النار إن الرسول الحليم لم تأخذه الدهشة لكنود الأعرابى أول الأمر ٬ وعرف فيه طبيعة صنف من الناس مرد على الجفوة فى التعبير والإسراع بالشر ٬ وأمثال هؤلاء لو عوجلوا بالعقوبة لقضت عليهم ٬ ولما كانت ظلما . لكن المصلحين العظماء لا ينتهون بمصاير العامة إلى هذا الختام الأليم ٬ إنهم يفيضون من أناتهم على ذوى النزق حتى يلجئوهم إلى الخير إلجاء ٬ ويطلقوا ألسنتهم تلهج بالثناء . وثمن ذلك لا يضن به الواجد الأريب ٬ ولو كان عطاء سخيا ٬ فما بذل المال إلى جانب ملك الأنفس ؟ إن الأعرابى الذى اشترى رضاه بما علمت لا يبعد أن تراه بعد أيام وقد كلف بعمل خطير. يقدم فيه عنقه عن طيب خاطر !! وما المال فى أيدى المصلحين الكبراء إلاحاجة العفاة من الوافدين الطامعين ٬ أو هو قمام الأرض تستناخ به الرواحل الجامحة. لتقطع عليها المفازات الشاسعة . وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يستغضب أحيانا غير أنه ما يجاوز حدود التكرم والإغضاء . والمحفوظ من سيرته أنه ما انتقم لنفسه قط ٬ إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها . ولما قال له أعرابى جلف وهو يقسم الغنائم: اعدل ٬ فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ٬ لم يزد فى جوابه أن بين له ما جهله ٬ ووعظ نفسه وذكرها بما قال له فقال: ويحك فمن يعدل إن لم أعدل ؟ خبت وخسرت إن لم أعدل . ونهى أصحابه أن يقتلوه حين هم بعضهم بذلك . خطب النبى صلى الله عليه وسلم فى الناس عصر يوم من الأيام فكان مما قاله لهم : إن بنى آدم خلقوا على طبقات شتى : ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء . والسريع الغضب سريع الفيء ٬ والبطيء الغضب بطيء الفيء ٬ فتلك بتلك ٬ ألا وإن منهم سريع الفيء سريع الغضب ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء ٬ وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء ٬ ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب ٬ ومنهم سيئ القضاء حسن الطلب ٬ ومنهم سيئ الطلب حسن القضاء فتلك بتلك ألا وإن منهم سيئ القضاء سيئ الطلب ٬ ألا وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطلب ٬ وشرهم سيئ القضاء سيئ الطلب . ألا وإن الغضب جمرة فى قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ٬ فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض أى فليبق مكانه وليجلس . فإنه إذا استطير وراء لهب الغيظ أفسد الأمور فى غيبة وعيه وغلبة عاطفته فلم يدع لإصلاحها مكانا . وقد شرح الحديث الشريف صنوف الخلق ومنازلتهم فى الفضل ٬ والمؤمن يضع نفسه حيث يجب. الشيخ .
محمد الغزالي