أثار التفاتى منظر بائع فواكه يسوق عربته الصغيرة أمامه، وعليها صفوف مرصوصة متسقة من الثمر الجيد، قد وضعت الواحدة منه إلى جانب الأخرى بعناية ودقة ونظام لم يضطرب عقده على طول ما انتظم فيه من مئات وألوف. فكان المنظر ـ بحق ـ مغريا على الإعجاب إن لم يكن مغريا على الشراء. إن هذا الرجل قد أفرغ وسعه فى إجادة عرضه لبضاعته التى يرتزق منها. وهنا شعرت بخاطر سريع يعترض تفكيرى، ويلوى عنانه إلى ناحية أخرى.. سمعت سؤالا خافتا ينبعث من أعماق نفسى. هل أنت ـ كعالم دين ـ تنظم للناس بضاعتك، وتحسن عرضها على أبصارهم وبصائرهم، لتبعث فى نفوسهم الإعجاب على الأقل إن لم تغرهم بالإقبال والقبول؟ وشعرت بحيرة فى الإجابة! ومعنى هذه الحيرة أن الجواب بالسلب! وبدا لى كأن علماء الأديان يكتفون بما لها من قيمة اسمية طنانة، وبما لهم فيها من منازل متوارثة عالية، فهم لا يجشمون أنفسهم مشقات العرض المنظم الطويل لما لديهم من بضائع، هى ـ لا ريب ـ أنفس ما فى الحياة من عروض. ماذا يتصور الناس عندما يسمعون صوت الدين، أو عندما يلمحون سمت رجاله؟ إن أذهانهم تعتريها صور مبهمة للحرمان والتزمت، ورسوم فاترة للسكون الموحش، والفناء القريب. وتلك الصور الخاطئة وحدها تكفى لهدم كل ما يجب للدين من محبة خالصة عميقة، وتكفى لصرف النفوس عن مبادئه وفضائله. فالدعاية للدين، تشبه أن تكون معكوسة النتائج لا تغرى الرائين بالمجىء إلا لتغريهم بالانصراف، وهذا فشل ذريع يحمل تبعته العارضون المفرطون. إن حسن العرض طابع العصر الحديث. والمذاهب المتكاثرة التى تتراكض فى زحام الحياة تتمتع بدعاة أقوياء يشدون أزرها، ويقيمون أمرها.. ومن الخير لعلماء الدين أن يهجروا ـ إلى غير عودة ـ حياة التراخى والطمأنينة، وأن يقبلوا على ما لديهم، يعرفونه على حقيقته، ثم يعرفون الناس حقيقته من غير تزيد، ولا انتقاص. فمن الظلم الفادح للجمال الغالى أن يلف فى بالى الخرق، وأن يتراكم عليه الوسخ والتراب.
محمد الغزالي