انظر مثلا إلى هذه العبارة: إن تضحية المواطن لوطنه تضحية تتفاوت درجاتها بدءا من تقديم شيئ قليل من ماله في سبيل الجهود الذاتية للتعمير والإصلاح. انظر إلى هذه العبارة مدققاً، تجدها قد جعلت مبدأ الانتماء أساسا أولياً، تتولد عنه نتيجة هي وجوب التضحية من المواطن لوطنه، وعن هذه النتيجة تتولد نتيجة فرعية هي تفاوت الصور التي تجيء عليها التضحية كما وكيفا. وهذا التسلسل الفكري مستطاع حتى لمن عاش عمره حبيس داره لم تقبس عيناه قبساً واحدا من وقائع الدنيا من حوله. ولا ينفي ذلك كونه مسلسلا فكريا صحيحاً في ذاته، إلا أنه قائم كله على معرفة مفردات لغوية، وليس فيه ما يقتضي دراسة ظاهرة من ظواهر الكون كائنة ما كانت، وهو بأكمله متوقف على معنى المبدأ الذي جاء في صدر العملية الفكرية، وأعنى مبدأ الانتماء. فإذا تبين -وكثيرا جدا ما يتبين- أن صاحب هذه العبارة إذا ما سئل عن تعريف الانتماء الذي جعل أساسا لتفكيره، عجز عن الجواب،فإنه من هنا يتبدى لنا جوهر الرسالة السقراطية التي أشرنا إليها في أوائل هذا الحديث. ما دام اللفظ الذي جعلناه سندا للعملية الفكرية هو بهذه الأهمية كلها وهذه الخطورة كلها فلا مناص لنا من دقة تعريفه تعريفا يتساوى في دقته مع تعريفنا للمفاهيم الرياضية كالمثلث والمربع.
زكي نجيب محمود