مصر لا تبدأ من مصر القريبة
إنها تبدأ من أحجار (طِيبة)
إنها تبدأ منذ انطبعت
قدمُ الماءِ على الأرض الجديبة
ثوبها الأخضر لا يبلى إذا
خلعته... رفت الشمس ثقوبه
إنها ليست عصوراً فهي الكل في
الواحد، في الذات الرحيبة
أرضها لا تعرف الموت فما
الموت إلا عودةٌ أخرى قريبة
تعبر القطرة في النيل فمِن
حولها الرقص وأعياد الخصوبة
فإذا البحر طواها نفرت
واسترد الماءُ في الوادي دُروبه
وأعاد الماء للنيل هُروبَه
واسترد الماء في مصر العذوبة
فسقى النيل بهِ ـ ثانيةً ـ
ظمأ البحر إذا ما مدَ كُوبَه
هكذا شعبكِ يا مصر له
دورة الماء ونجواه الرطيبة
مات فيه الموت يوما فابتنى
هَرَما للموت يستجلي غيوبه
أبداً يبني ويأتي غيره
ناشراً فيه أساه وحروبه
فإذا راح ابتنى ثم ابتنى
فانثنى الغازي إليه بالعقوبة!
وكأن الذُلَ في الشعب ضريبة
وابتسام الصبر قد صار ذنوبه
وكأن الدمَ نِيلٌ آخرٌ
تستقي منه الرمال المستطيبة
كل أبنائكِ يا مصر مَضوا
شهداء الغدِ في نُبْلٍ وطيبة
الذي لم يقضِ في الحرب قضى
وهو يُعطي الفأس والغرسَ وجِيبه
والذي لم يقضِ في الفأس قضى
حاملاً أحجار أسوان الرهيبة
اسمعي في الليل أناتِ الأسى
اسمعي حزن المواويل الكئيبة
إنها أسماء من ماتوا ولم
يبرحوا القلب فقد صاروا نُدوبه
سيعودون فلا تبكي فما
يرتضي المحبوب أن تبكي الحبيبة
أتُرى تبكين من مات .. لكي
تستعيدي راية الفكر السليبة
والذي مات لكي ينفث في
كل قلبٍ ناشئٍ حرف العروبة
ولكي يحتضن الطفل حقيبة
ولكي تقتات بالعلم الشبيبة
ولكي يهوي حجاب الخوف عن
روح ربات الحجال المستريبة
ولكي يُرفع سيف العدل في
وجه أبناء المماليك الغريبة
والذي لولاه ما مرت لنا
ـ في عبور النار للحرب ـ كتيبة
أتُرى تبكين يا مصر؟ أنا
لستُ أبكيه وإن كنتُ ربيبه
شرف الأبناء أن يمضي أبٌ
بعد أن قدم للمجد نصيبه
شرفٌ للأب أن يمضي فلا
تعتري أبناءَه الروح الزغيبة
إنما يبكي ضعاف الناس إن
عجزوا أن يدركوا حجم المصيبة