محمود درويش
أَسْتَمع إلى أم كلثوم كل ليلة، منذ كان الخميس جوهرتها النادرة، وسائر الأيام كالعقد الفريد. هي إدمانُ الوحيد. وإيقاظُ البعيد على صهيل فَرَسٍ لا تُرَوَّض بسرج ولجام. نسمعها معًا فنطرب واقفين، وعلى حدة فنظلُ واقفين ... إلى أَن تومئ لنا الملكة بالجلوس فنجلس على متر من ريح. تُقَطِّعنا مقطعاً مقطعاً بوَتَرٍ سحريّ لا يحتاج إلى عود وكمان ... ففي حنجرتها جوقة إنشاد وأوركسترا كاملة، وسرّ من أسرار الله. هي سماء تزورنا في غير أوقات الصلاة، فنصلِّي على طريقتها الخاصة في التجلّي. وهي أرض خفيفة كفراشة لا نعرف إن كانت تحضر أم تغيب في قطرة ضوء أو في تلويحة يد الحبيب. لآهتها المتلألئة كماسةٍ مكسورةٍ أن تقود جيشاً إلى معركة .... ولصرختها أن تعيدنا من التهلكة سالمين. ولهمستها أن تُمْهلَ الليل فلا يتعجل قبل أن تفتح هي أولا باب الفجر. لذلك لا تغمض عينيها حين تُغَنِّي لئلا ينعس الليل. هي الخمرة التي تسكرنا ولا تنفذ. الوحيدةُ الوحيدةُ سعيدةٌ في مملكتها الليلية ... تُجنبُنا الشقاء بالغناء، وتحبِّبُنا إلى احدى حفيدات فرعون، وتُقَرِّبنا من أبدية اللحظة التي تحفرها على جدار معبد ينصاع فيه الهباء إلى شيء ملموس. هي في ليلنا مشاع اللا أحد. منديلها، ضابط إيقاعها، بيرقٌ لفيلقٍ من عُشّاقٍ يتنافسون على حُبّ مَن لا يعرفون. أما قلبها، فلا شأن لنا به ... من فرط ما هو قاس ومغلق كحبة جَوْزٍ يابسة!
اقتباسات أخرى للمؤلف