إن الاإنسان استطاع بعقله أن يقيس الأرض و يزنها , وأن يعرف بعد الشمس و دورانها و حساب الافلاك كلها , و استطاع أن يتغلب على العناصر و يمازج بينها و يفك عقال ما تخبئه من قوى جبارة , و لكنه يضرب في الجبل و ينزل الى الوادي و يقف أمام البحر و يناجى النجوم و يتأمل الزهر و يهتز لمطلع الفجر و ينقبض للغروب و هو في كل هذا لا يظفر من الطبيعة بكلمة واحده أو اشاره عابرة تدل على انها تحس بأنه هنا. إن حديثه مع الطبيعة مونولوج, من جانب واحد, هو ممثل في مسرح ليس فيه متفرج , كان ينبغى له إزاء هذا الصمم أن يقنع بأنه كالنمل و النحل و سائرالحيوان و النبات ,بل و الجماد, مخلوقات متساوية تظهر و تختفي و يختلط بعضها ببعض في عجينة واحدة, و لكن كيف يقنع الإنسان بالإنمحاء و قد أتى بالمعجزات و نفذ الى الاسرار! لا ترضى كبرياؤه الا أن يجد من الطبيعة ردا على كلامه يشعره بمقامه, و هو ظالم في التجني عليها لانه في حماقته قد قصر نظرته على الحياة وحدها فهناك لحظة , لحظة هائلة, تهب فيها الطبيعة في أتم قوتها و عنفوانها و تصيخ للانسان و تفهم نجواه و وجيعنه, فتفتح له ذراعيها وتضمه لصدرها و تغمره بقبلاتها شأن الام الرءوم التى لا ولد لها غيره ,هي لحظة الدفن. يحيى حقي
اقتباسات أخرى للمؤلف