وليس من اليسير أن نقطع برأي في عدد الجيشين اللذين التقيا بصَفّين واقتتلا قتالاً طويلاً منكراً لم يُر مثله قط في الإسلام، أي لم يُرَ مثله قط بين المسلمين. فقوم يبلغون بجيش عليّ مئة ألف، ويبلغون بجيش معاوية سبعين ألفاً. وقوم ينزلون بهذين الرقمين إلى أقل من ذلك. وليس من اليسير كذلك أن نحصى عدد القتلى من أولئك وهؤلاء، وقد زعم قوم أن القتلى من أهل الشام بلغوا خمسة وأربعين ألفاً، وأن القتلى من أهل العراق بلغوا خمسة وعشرين ألفاً. وليس المهم الآن أن نحصى الجيشين إحصاءً دقيقاً، ولا أن نحصى القتلى منهما إحصاءً دقيقاً وإنما المهم هو أن نلاحظ أن الخصمين قد تأهَّبا كأحسن ما تكون الأهبة وأقواها، واضطرهما ذلك إلى أن يكشفا ثغورهما المحاذية للعدو قليلاً أو كثيراً. وآية ذلك أن الروم طمعوا في الشام وهمّوا بغزوها، لولا أن معاوية وادَعهم وصانعهم واشترى كفَّهم عنه بالمال. ولم تكن بإزاء ثغور العراق في الشرق دولة قوية منظمة كدولة الروم، ولكن كثيراً من مدن الفرس تنكَّر للمسلمين وهمَّ بالثورة لولا ما كان من رجوع عليّ إلى الكوفة وتكلّفه ضبط هذه الثغور. وإذا طال القتال بين جيشين عظيمين واشتد، وبلغ من القبح والشناعة ما صوّره المؤرخون وأصحاب القصص، كَثُر القتلى والجرحى من الفريقين، وإن بالغ القصّاص بعد ذلك في عدد أولئك وهؤلاء. والشيء الذي لا شك فيه هو أن جماعة من خيار المسلمين وأعلامهم من أهل العراق وأهل الشام قد قتلوا في هذه الحرب، وكان قتلهم مروّعاً لمن شهده ولمن سمع الحديث بذكره بعد انقضاء الحرب، وما زال مروّعاً للذين يقرءونه الآن في كتب القصص والتاريخ. فقد قُتل من أصحاب معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب، قاتل الهرْمزان، كما قُتل جماعة من خيار أصحابه وأعظمهم شجاعة ونجدة وبأساً. وقتل من أصحاب عليّ عمار بن ياسر، وما زال قتله من الأحاديث المأثورة بين المسلمين، فهو ابن أول شهيدين في الإسلام. فتن أبو جهل أباه ياسراً وأمه سُمَيّة حتى قتلهما كما هو معروف. وهو الذي قال له النبي: ويحك يا ابن سُمَيّة، تقتلك الفئة الباغية. وقد أشفق الزبير، كما رأيت، من حرب عليّ حين عرف أن عمَّاراً معه. وكان خُزَيمة بن ثابت الأنصاري يتبع عليّاً في صفين ولكنه لا يقاتل، وإنما يتحرى أمر عمّار، فلما عرف أنه قد قُتل قال: الآن استبانت الضلالة. ثم قاتل حتى قتل. رأى أن أهل الشام قد قتلوا عمّاراً فعرف أنهم الفئة الباغية التي ذكرها النبي في حديثه ذاك. ووقع قَتْل عمار من معاوية وأصحابه وقعاً أليماً مروّعاً، لم يشكّوا في أن النبي قال له: تقتلك الفئة الباغية، وإنما حاولوا أن يخفوا علمهم بهذا الحديث. فلما لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً تأولوه. وقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به. طه حسين