كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية ؛ كما كان شديد البغض للاستبداد ، عدوًّا للأرستقراطية ، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب : أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة ، وحين عرض نفسه بذلك الخطر . ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألَّب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة ، كما أنه كان قد ألَّب على نفسه الشعراء والفلاسفة والمعلمين ، لأنه صرف عنهم الشباب من جهة ، ولأنه كان شديد السخر بهم من جهة أخرى . فما هي إلا أن تم انتصار الديمقراطية على الطغاة الثلاثين ، حتى تقدم اثنان من الأثينيين ، أحدهما شاعر ، بقضية إلى الشعب يتهمان فيها سقراط تهمًا عدَّة : منها أنه أفسد الشباب ، ومنها أنه لا دين له ، ومنها أنه يعبث بالنظم السياسية القائمة . وحوكم سقراط ، فلم يكن موقفه من قضاته موقف الرجل الذي يريد أن يدافع عن نفسه حقًّا ويثبت براءته حقًّا ، وإنما كان موقفه من القضاة موقف الساخر بهم ، المزدري لهم ، ومع ذلك فقد صدر الحكم عليه بكثرة قليلة جدًّا . وكانت العادة عند الأثينيين وغيرهم من القدماء أن يصدر في مثل هذه القضايا الجنائية حكمان : الأول يثبت إدانة المتهم أو ينفيها ، والثاني يقرر العقوبة التي يستحقها المتهم إذا ثبتت إدانته . وكانت العادة إذا ثبتت إدانة المتهم أن يُسأل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها ، وأن يُسأل المدعي عن العقوبة التي يرى أن المتهم خليق بها ، ثم تفصل المحكمة بين هذين الجوابين ، فتقر إحدى العقوبتين اللتين اقترحهما المتهم والمدعي . فلما صدر الحكم بإدانة سقراط سُئل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها ، فأجاب ساخرًا مستهزئًا : أنه يرى أن تطعمه الدولة مجانًا بقية حياته ؛ لأنه أنفق هذه الحياة في تعليم الأثينيين وتهذيبهم . وسئل المدعون فطلبوا الموت ، وكان القضاة قد سخطوا لهذه السخرية القاسية ، فأقروا في حكمهم ما طلب المدعون ، وقُضِيَ بالموت على سقراط . وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ . وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة ؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة ، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينًا للدولة ، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم . طه حسين