ومضى ابن عباس آمناً يحميه أخوالُه ويحمون ما أخذ من المال حتى بلغ مأمنه في ظل البيت الحرام. ولم يكد يستقر بمكة حتى أقبل على شيء من الترف. واشترى، فيما يروي المؤرخون، ثلاث جوارٍ مولدات حُور بثلاثة آلاف دينار. وعرف عليٌّ ذلك فكتب إليه: أما بعد. فإنى كنت أشركتُك في أمانتي، ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إليّ. فلما رأيتَ الزمانَ على ابن عمَّك قد كَلب، والعدوَّ عليه قد حَرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت له ظهر المِجَنّ، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخانئين. فلا ابن عمّك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تُريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بيِّنة من ربك. وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرّتهم عن فيئهم. فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلظت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزَلّ دامية المعزى الهزيلة وظالِعَها الكبير. فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثِّم من أخذها، كأنك، لا أبا لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك. سبحان الله! أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ أوَما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله، وأدّ أموال القوم، فإنك والله إلاّ تفعل ذلك ثم أمكنني الله منك لأعذرنَّ إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأردّه، وأقمع الظالم وأنصف المظلوم. والسلام. ولست أعرف كلاماً أبلغ ـ في تصوير الحزن اللاذع، والأسى الممض، والغضب لحق الله وأموال المسلمين، في مرارة اليأس من الناس، والشك في وفائهم للصديق، وحفظهم للعهد، وأدائهم للأمانة، وقدرتهم على التزام الجادة ومعصية الهوى من هذا الكلام. طه حسين