عسير جدًّا درس فلسفة سقراط؛ لأن سقراط لم يكتب شيئًا، وعسير جدًّا درس فلسفة أفلاطون؛ لأن أفلاطون كتب كثيرًا، ولأن فهم هذه الكتب التي تركها أفلاطون وبقيت كلها وهي تنيف على الثلاثين ليس بالأمر اليسير. ليس بالأمر اليسير؛ لأن هناك ضروبًا من التناقض بين هذه الكتب من جهة، ولأن آراء الفيلسوف في بعض المسائل قد بلغت من الغموض والدقة حدًّا عظيمًا جدًّا، ثم لأن هذا التناقض يمكن تفسيره وإزالته. لو استطعنا أن نتبين التاريخ الذي كتبت فيه هذه الكتب. بحيث نستطيع أن نقول إن هذا الرأي قد جاء بعد هذا الرأي؛ فهو يدل على أن الفيلسوف قد تطور وغير من آرائه قليلًا أو كثيرًا ولكن من العسير جدًّا، أو قل من المستحيل، تحديد التواريخ التي كتبت فيها آثار أفلاطون. ونحن نعلم أن أفلاطون قد بدأ الكتابة منذ مات سقراط، أي في أول القرن الرابع، وظل يكتب ويعلم إلى أن مات، أي في أول النصف الثاني من هذا القرن. وليس غريبًا أن تتطور آراء الفيلسوف وتتغير في خمسين سنة، ولا سيما إذا لم يكن الفيلسوف قد لزم حياة هادئة مطمئنة. فليس إذًا سبيل إلى الشك في أن فلسفة أفلاطون قد تغيرت وخضعت لألوان من التطور يمكن تحديدها لو ظفرنا بالتواريخ التي كتبت فيها الكتب الأفلاطونية. ومن هنا اجتهد العلماء المحدثون في البحث عن هذه التواريخ، وسلكوا إلى ذلك سبلًا مختلفة؛ فمنهم من حاول ترتيب الكتب الأفلاطونية ترتيبًا منطقيًّا، ومنهم من حاول أن يؤرخ كل كتاب بما يجد فيه، أو بما يمكن أن يجد فيه، من الأسماء والتعريض بالحوادث التاريخية. ولكن كتبًا كثيرة لأفلاطون تخلو من هذه الحوادث، ومن هذه الأسماء. وآخر ما اهتدى إليه الباحثون في هذا النحو، هو الطريقة اللغوية، وهي التي تمكن من تحديد التاريخ الذي ظهر فيه الكتاب بوساطة لغة الكتاب نفسه، ذلك أن لغة الكاتب تتطور كما تتطور آراؤه؛ فإذا استطعنا أن نعين لغة أفلاطون في شبابه، ثم كهولته، ثم شيخوخته، فقد استطعنا أن نؤرخ كتبه. طه حسين