على أن من التقصير أن نزعم أن فلسفة سقراط قد انتهت عند هذا الحد ، بل من الحق أن نقول : إن هناك وجهًا آخر من وجوه الفلسفة السقراطية يحسن ألا ننساه وألا نهمله ، وهو منهجه في البحث وطريقته في التفكير ، فلم يكن سقراط كغيره من الفلاسفة الذين تقدموه ، ولا كغيره من الفلاسفة الذين جاءوا بعده بزمن قصير ، يواجه المباحث الفلسفية مباشرةً ، ويهجم عليها هجومًا عنيفًا ، حتى يخلص منها إلى نتائجها ، وإنما كان يدور حول المباحث الفلسفية في رفق ولطف ، وما يزال يدور حولها ، حتى يجد مسلكًا ضيقًا يسلكه فينتهي به إلى النتيجة التي كان يبتغيها . هذه الطريقة الفلسفية هي طريقة الحوار . لم يكن سقراط يضع أمامه مسألة بعينها ثم يأخذ في التحليل والنقد والتعليم حتى ينتهي إلى ما يريد ، وإنما كان يتحدث ، فيسأل ويناقش جواب المسئول ، ثم يسأل ، ثم يتعرض للسؤال ، ثم يجيب ، ثم يورِّط محاوره في الخطأ ، أو يتورَّط هو في الخطأ ، وما يزال في حوارٍ وفي أخذ وردٍّ حتى يستخلص النتيجة كأنها إحدى القضايا الأولية التي لا تحتمل الشك ولا الجدال . ومصدر هذه الطريقة أن سقراط كان يعتقد أن النفس بطبيعتها قادرة على العلم بالأشياء ، وعلى استكشاف الحقائق ، ولكن ظروف الحياة العملية وأعراضها ، وما ورث الناس من عادات وأخلاق ، ومن أساطير وسخافات ، كل ذلك قد تراكم على هذه النفس الصافية كما يتراكم الصدأ على المرآة . فعمل الفيلسوف ليس هو تعليم الإنسان ما لم يعلم ، وإنما هو إعداد الإنسان لكشف الحقائق ، أو قل : إن عمل الفيلسوف إنما هو إزالة هذا الصدأ عن المرآة ، حتى إذا أتمَّ صقلها وتصفية جوهرها تجلت فيها الحقائق واضحة بيِّنة . ومن هنا كان سقراط يعلن أنه لا يعلِّم الناس شيئًا ؛ لأنه لا يعلم شيئًا ، وإنما يبحث معهم عن الحق فيجده حينًا ويخطئه حينًا ، ومن هنا سميت طريقة سقراط طريقة التوليد ؛ لأنه كان يعتقد أن النفس مشتملة على الحقائق كما تشتمل الأم على الجنين ، وأن عمل الفيلسوف هو استخراج هذه الحقائق من النفس ، كما أن عمل القابلة هو استخراج الجنين من الأم . وسواءٌ أكانت هذه التسمية صحيحة أم لم تكن ، وسواءٌ أكانت بينها وبين صناعة سقراط صلة أم لم تكن ، فليس من شك في أن هذه التسمية تصف طريقة سقراط الفلسفية في البحث وصفًا دقيقًا. طه حسين