ها هي مدينتي متسولة نائمة.. وقد التقيت قبل قليل برجل مذعور، أنبأني بأن مدينتي غزاها رجال غرباء قساة، ونصحني بالابتعاد عنها، ولكن حنيني إلها كان أقوى من أيّ رعب. وها هي مدينتي المتسولة النائمة. ميت ربيع حقولها الأخضر، تطوقها من كل جانب الأسوار الحجرية. وارتعدت وأنا أدنو من أحد أبوابها. واعترض طريقي رجال، قاتمة وجوههم. قلت لهم: أريد الدخول. أنا من أبناء المدينة. كنت مسافراً . فقالوا لي بسخرية: إذن أنت من أبناء المدينة؟!. ولم يطلقوا سراحي إلّا بعد أيام عديدة، وقد حولتني أيديهم الفظة مخلوقاً قد يشتهي إمرأة ما وقد يقبِّلها ويلمس جسدها بنهم ولكنه سيضطر إلى تركها وهو يرتجف حسرة. كانت المنازل صامتة، والشوارع شبه مقفرة، تدق أرضها أحذية الرجال الغرباء، وكان باب البيت الذي ولدت فيه موارباً. دخلت. أمي تبكي ثم تفرح ثم تطلق الزغاريد. سألتها: أين أبي؟. قالت بصوت متهدج: سرق رغيفاً.. قطعوا ذراعه.. سرق رغيفاً آخر.. قطعوا ذراعه الثانية.. ثم عاد ذات مساء لحماً ممزقاً بلا رأس. أين يا أمي شعر أبي الأبيض؟أين شاربه الكث المتهدل؟ أين عيناه الصامتتان الوديعتان؟ ضحكته صباح.. أين غضبه وفرحه؟ سأقف عند مفترق الشوارع، وأمدُّ كفيّ طالباً من المارة بضعة قروش. سأفصل رأسي عن جسدي وأعطيه لجثة أبي. نامي يا أمي. سأبكي بحرارة إذا متّ ولكنني سأفرح أسضاً لأني سأرث سريرك العريض المريح. قالت أمي: الغرباء يأكلون خبزنا كله. : نامي يا أمي نامي. : رجالنا عبيد. : نامي. : البارحة قتل مئة رجل.. مئة رجل.. غابة خضراء أحرقها الغرباء. : نامي يا أمي. ولذت بالصمت وقتاً طويلاً. عذبني الجوع. قلت لأمي بخجل وذل: أنا جائع. قالت: أنا لم أذق طعاماً منذ أيام. فخرجت إلى الشوارع، وقلت لنفسي: يجب أن أجد أيَّ عمل. وكانت المعامل والدكاكين قد أصبحت كلها ملكاً للرجال الغرباء. وقفت أمام باب معمل، وقلت: أريد أن أشتغل. فرمقني صاحب المعمل الذي كان واحداً من الغرباء، وقال: أنت هزيل. قلتوأنا أشعر أني كلب ينبح طالباً عظمة يلعقها: أنا قوي. :اذهب. أنت هزيل ووقح. اذهب ومت. فلم أيأس،وظللت باحثاًعن عمل. عثرت على شركة تطلب موظفاً، فقلت لمديرها: أعتقد أني أملك الكفاءة اللازمة للعمل في شركتكم. فأجاب بازدراء: لا عمل عندنا. وعندما خرجت من غرفته، قال لي أحد الموظفين ناصحاً : إذا أردت أن تشتغل فليكن حذاؤك لامعاً وملابسك أنيقة ووجهك حليقاً. ابتسم باستمرار انحنِ كثيراً . ردد بخضوع: أمرك سيدي.. أمرك سيدي. فقلت له : اذهب ونصائحك للجحيم. واستأنفت الطواف في الشوارع.. أوه.. مدينتي كانت في الأيام القديمة زهرة من أزهار الياسمين المغروس بكثرة في باحات بيوتها، ولكنها أضاعت وجهها الأبيض منذ أن وطأتها أحذية الرجال الغرباء. الأطفال لا يضحكون.. لا يلعبون في الحارات.. لا يتراشقون بالحجارة. كل النساء عاهرات. الرجال يمشون بتثاقل ذليل، رؤوسهم منكّسة، ووجوههم صفر وكثيرون بترت ألسنتهم. نظرت اليًّ إحدى النساء، وضحكت مبتهجة. رمقتها باستغراب. قالت: ألم تعرفني؟ أنا سلمى. وكانت سلمى فتاة جميلة، ولكن المرأة الواقفة أمامي ذات وجه أصفر متجعد، وفمها بلا أسنان. قلت بذعر : سلمى.. ما الذي حدث؟. : الرجال الغرباء قتلوا زوجي ثم نبذوني لما فقدت جمالي. أما زلت تحبني؟. فحملقت إلى وجهها ثم ابتعدت مشمئزاً دونما كلمة. وتوقفت بعد قليل حين ابصرت رجلا هرماً يحاول أن يمنع الرجال الغرباء من سلبه ابنته الصبية، وكان الرجل الهرم شديد الشبه بأبي. ووجدت نفسي أقف بجانبه وأقاتل بضراوة. ولم تمض سوى لحظات حتى سُدِّدت الينا البنادق، وغرقت في طوفان ناري. ولم يكن وراء ظهري أيُّ حائط. وعندما سقطت منهاراً على الأرض الصلدة شاهدت سحباً من الجراد تمتلك السماء الزرقاء وتحجب وجه الشمس الأصفر. -4- هل الشمس تشرق كل صباح؟ أنا بائس يا أمي. هل قدماك تؤلمانك؟ اغمسيهما في الماء الساخن قبل النوم. هل تضحكين أحياناً يا أمي؟ اضحكي كثيراُ. أنا لا أستطيع الضحك أو البكاء لأن الديدان والجرذان أكلت رئتي وعينيَّ وحنجرتي. أرسلي إليَّ ملابس صوفية. آه القبر بارديا أمي وشمس البحر نائية. زكريا تامر