ونعني بالذهنية ما يقابل كلمة (Subjective) وهي كلمة تطلق لوصف الحقائق التي يقوم البرهان على صحتها من بديهة الإنسان ولا يتوقف العلم بأولياتها على المشاهدة والاستقراء. ومنها أصول الحقائق الرياضية أجمع وأصول المنطق والفلسفة الإلهية، ويلحق بها كل ما هو وجداني لدني من المعارف والفنون حتى الموسيقى، فإنها في سبحاتها العالية ما تختلف كثيرا عن كونها معاني موحاة وأريحية ملهمة. ولهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحيانا وتتآلف العلوم التي تبحث فيها وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها. فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة ولا يندر أن ترى من يجمع بينهما وبين الموسيقى معا. فالفارابي مثلا كان فيلسوفا رياضيا مبتكرا في الموسيقى، وفيثاغورس أقدم فلاسفة ما وراء الطبيعة عند اليونان كان يبنى فلسفة الكون كله على النسب الموسيقية بين الأعداد. وقد مر بمصر قبل أيام نابغة من أفذاذ الرياضة هو ألبرت أينشتاين صاحب فلسفة (النسبية) التي دهمت الناس ببدع في تعريف الوقت والفضاء يكفي أن نذكر منها أن الخط المستقيم قد لا يكون أقرب موصل بين نقطتين... وهو فيلسوف رياضي وموسيقار بارع في العزف على القيثار. وليس يخفى الشبه القريب بين ملامح العظماء من الفلاسفة والرياضيين وملامح العظماء من نوابغ الموسيقيين. فقد تلتبس عليك صورهم حتى تكاد لا تميز بعضهم من بعض ولا سيما في نظرات العين وسعة الجبهة وارتفاعها. وما كان ذلك كما ترى إلا لاتصال ملكاتهم وغلبة الوجدان عليها جميعا. عباس العقاد