وتمنيت أن أقوم وأضع قطعة من القطن بين شفتي الأستاذ العقاد حتى لا يمضي فيما يقول، أو أضع هذا القطن في أذني، ويظل الأستاذ العقاد يتحدث لكل الناس إلا أنا يقول الأستاذ: إنني أقول للحياة نعم!، إني أقبلها، واستمر فيها، وأحاول أن أضيف ما استطعت، وأن أغير، وأن أبدل، إنني أرفض السلبية وأرفض أن أكون متفرجًا، لأنني أؤمن بأن هناك حكمة من وجودي، فالله لا يخلق أحدا أو شيئا عبثًا، فأنا حكمة، أو موجود لحكمة، ومن الحكمة ألا أرفض حكمة الله وأحسست أنني عندما تسللت وحدي من بيت الأستاذ العقاد، جعلت أنفض أذني حتى لا يبقى فيها شيء من الذي قال، ما هذه الحياة التي نقول لها: نعم!، حياته هو؟، يجوز!، حياتي أنا؟، أقول نعم لأي شيء؟ لهذا القرف والفقر والمرض، لهذا الغش والكذب، لهذه المذاهب الفلسفية والدينية التي لم تحقق لي الراحة والأمان، لهذه الدوخة بين الأرض والسماء!.. ، ألم يحاول الأستاذ أن ينتحر؟، حاول!، إنني لا أصدق ما يقوله الأستاذ، إنه هو أيضًا مثل أساتذة الفلسفة: إنهم شعراء وصفهم القرآن الكريم: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون وبعد أن هبطت الدرج، وقفت أمام بيت الأستاذ العقاد أشم هواءً منعشًا، هدأت نفسي قليلا، وعدت إلى مكاني من الصالون، قلت: يا أستاذ أنت تقول للحياة نعم! .. أي حياة يا أستاذ .. أنت تقول: نعم .. فهل كل إنسان يقول: نعم .. هل من الضروري أن نقول نعم لما نكره .. لما لا نفهم .. لمن يظلم .. لمن يقهر .. هل نقولها للجوع والمرض .. فإذا لم نقتنع، فكيف نقول: نعم! .. أنك لم تكن كذلك من عشر سنوات ولا من عشرين عامًا .. فهل تقول ذلك لأنك قاربت الستين يا أستاذ .. إن لك شعرًا حزينًا فاجعًا، فكيف كان ذلك يا أستاذ؟ فقال: يا مولانا إنني أقول للحياة: نعم!، بعد أن جربت ومارست، وأنت تريد مني أن أقول مثلك: لا!، مع أنك لم تجرب، إن الحياة حدثتني طويلا وحاورتها، واقتنعت بها، ولكنك يا مولانا لم تسمعها، لم تلمسها، لم تعرفها بعد، فكيف وأنت دارس للفلسفة ترفض أن تستمع ثم تصدر حكمك عليها، الذي هو حكمٌ على نفسك، أنت لم تظلم الحياة، وإنما أنت ظالم لنفسك، أعط نفسك فرصة، وقتًا، وانتظر، خذ نفسك، ثم قل ما بدا لك بعد ذلك، أنت يا مولانا مثل قاض وقف أمام باب المحكمة وأدان المتهمين، فلا هو عقد جلسة، ولا هو درس القضية، ولا عرف كل وجهات النظر، إن مثل هذا القاضي قد حكم على نفسه بأنه ليس قاضيًا، وإنما طاغية جاهل . أنيس منصور