*بعد الموت ماذا أريد أن يقال عني.. ما هي الكلماتُ التي تقالُ عن الحيِّ بعد موتهِ إلا ترجمة أعماله في كلمات؟ فمن عرف حقيقة الحياة عرف أنه فيها ليهيئ لنفسه ما يحسِنُ أن يأخذه، ويعدّ للناس ما يحسُن أن يتركه، فإن الأعمالَ أشياءٌ حقيقيةٌ لها صورها الموجودة وإن كانت لا تُرى. وبعدَ الموتِ يقولُ النَّاسُ أقوال ضمائرهم لا أقوال ألسنتهمْ، إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدوًّا ، وتخلُصُ معاني الصَّداقة بفقدِ الصَّديق، ويرتفعُ الحسدُ بموتِ المحسود، وتبطُلُ المجاملةُ باختفاء من يجاملونه، وتبقى الأعمال تنبِّهُ إلى قيمةِ عاملِها، ويفرَغُ المكانُ فيدلُّ على قدْر من كان فيه، وينتزعُ من الزّمن ليل الميت ونهاره، فيذهبُ اسمهُ عن شخصِهِ ويبقى على أعماله. ومن هنا كان الموتُ أصدقَ وأتمَّ ما يُعَرِّفُ النَّاسَ بالنَّاسِ، وكانت الكلمةُ بعده عن الميت خالصةً مصفّاة لا يشوبها كذِبُ الدُّنيا على إنسانها، ولا كذِبُ الإنسانِ على دنياه، وهي الكلمةُ التي لا تقالُ إلَّا في النِّهاية، ومن أجلِ ذلك تجيء وفيها نهايةُ ما تُضمرُ النَّفسُ للنَّفس. وماذا يقولون اليومَ عن هذا الضَّعيف؟ وماذا تكتبُ الصُّحُف؟. هذه كلماتٌ من أقوالهم: حُجَّة العرب، مُؤيِّد الدين، حارِسُ لغةِ القرآن، صدْرُ البيانِ العربيّ، الأديبُ الإمام، معجزة الأدب، إلى آخر ما يطَّرد في هذا النَّسق، وينطوي في هذه الجملة، فسيقالُ هذا كلُّه، ولكن باللهفةِ لا بالإعجاب، وللتَّاريخِ لا للتَّقريظ، ولمنفعة الأدب لا لمنفعة الأديب، ثمّ لا يكونُ كلامًا كالذي يُقالُ على الأرضِ يتغير ويتبدّل، بل كلامًا خُتِم عليه بالخاتم الأبديّ، وكأنّما مات قائلوه كما مات الذي قيل فيه. أمّا أنا، فماذا ترى روحي وهي في الغمامِ وقد أصبحَ الشَّيءُ عندها لا يُسمَّى شيئًا؟ إنها سترى هذه الأقوالَ كلّها فارغة من المعنى اللُّغويّ الذي تدلّ عليه، لا تفهم منها شيئًا إلا معنى واحدًا هو حركةُ نفسِ القائل، وخفقةُ ضميرِه، فشعورُ القلبِ المتأثِّر هو وحده اللُّغة المفهومة بين الحيِّ والميِّت. سترى روحي أنَّ هؤلاء النَّاس جميعًا كالأشجار المنبعثة من التُّراب عاليةً فوقه وثابتةً فيه، وستبحثُ منهم لا عن الجذوع والأغصان والأوراق والظاهر والباطن، بل عن شيء واحد هو هذه الثّمرة السّماويّة المسمّاة القلب، وكلِّ كلمةِ دعاء وكلمةِ ترحُّمٍ وكلمةِ خير، ذلكَ هو ما تذوقُهُ هذه الرُّوح من حلاوةِ هذه الثَّمرة . مصطفي الرافعي