إن السعادة ينبوع يتفجر من القلب، لا غيث يهطل من السماء، وأن النفس الكريمة الراضية البريئة من أدران الرذائل وأقذارها، ومطامع الحياة وشهواتها، سعيدة حيثما حلت، وأنى وُجدت، في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور، وبين الآكام والصخور؛ فمن أراد السعادة فلا يسأل عنها المال والنسب، وبين الفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين، بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه، فهي ينبوع سعادته وهنائه إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد، وما هذه الابتسامات التي نراها تتلألأ في أفواه الفقراء والمساكين والمحزونين والمتألمين لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم؛ وما هذه الزفرات التي نسمعها تتصاعد من صدور الأغنياء والأثرياء وأصحاب العظمة والجاه لأنهم أشقياء في عيشهم؛ بل لأنهم أشقياء في أنفسهم، وما كدر صفاء هذه النفوس وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها مثل عاطفة البغض، ولا أنار صفحتها وجلى ظلمتها مثل عاطفة الحب، فأشقى الناس جميعا المبغضون الذين يضمرون الشر للعالم، فيجزيهم العالم شرا بشر، وأسعدهم جميعا المحبون الذين يحبون الناس ويمنحونهم ودِّهم وصفاءهم، فيمنحهم الناس من بنات قلوبهم مثل ما منحوهم.مصطفي المنفلوطي