الحب! وما الحب إلا لهفةٌ تهدر هديرها في الدم، وما خُلقت لهفة الحب أول ما خُلقتْ إلا في قلب الأم على طفلها تَرأَمه وتحنو عليه، ولن يحفظها للعالم إلا هذا القلب نفسه. ولقد يكون عمر الطفل يومين ولكن لهفة أمه عليه وحفظها إياه حفظ عينيها، تجعل له من الحب عمراً متطاولاً ولا يقاومُ به الأقدار العادية عليه في مسارحها، ولولا ذلك لحَطَمَتْهُ هذه الأقدار كما تحطم كلَّ طفل أهمله ذوو عنايته، فلهفة الأم على طفلها كأنها قوّة سِنينَ عدداً في جسم هذا الطفل، ومن ثمَّ لم يكن الحب الصحيح في أسمى مظاهره إلا حبَّ المرأة لبني بطنها، وإنما يسمى غرامُ العاشقين حبّاً لأن في العاشق دائماً مع حبيبته أكبر معاني الطفولة، وفي العاشقة دائماً مع حبيبها، أصغر معاني الأمومة. وما كان هذا الغرام ليُسمى حبّاً لولا ذلك ولولا أن في اللغات لصوصاً من الألفاظ تسرق معاني غيرها.. حبُّ الأم في التسمية كالشجرة: تُغرَس من عود ضعيف ثم لا تزال بها الفصول وآثارها، ولا تزال تتمكن بجذورها وتمتد بفروعها، حتى تكتملَ شجرةً بعد أن تُفني عِدادَ أوراقها لياليَ وأياماً. وحب العاشقين كالثمرة: ما أسرع ما تنبت وما أسرع ما تنضج وما أسرع ما تُقطف! ولكنها تُنسي الشفاه التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض والشمس والماء في الشجرة القائمة. لا لذة في الشجرة، ولكنها مع ذلك هي الباقية، وهي المُنتجة، ولا بقاء للثمرة، ولكنها على ذلك هي الحلوةُ، وهي اللذيذة، وهي المنفردة باسمها. وهكذا الرجل: أغواه الشيطان في السماء بثمرةٍ فنسي الله حيناً ويُغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحياناً!.مصطفي الرافعي