حاولت أن أفقد ذاتي بين صفحات الكتب لعلني أستأنس بأخيلة الذين طواهم الدهر ، وكم جربت أن أنسى حاضري لأعود بقراءة الأسفار إلى مسارح الأجيال الغابرة ، فلم يُجْدِني كل ذلك نفعًا ، بل كنت كمن يحاول إخماد النار بالزيت ، لأنني لم أكن أرى من مواكب الأجيال سوى أشباحها السوداء ، ولا أسمع من أنغام الأمم غير الندب والنواح ، فسفر أيوب كان عندي أجمل من مزامير داود ، ومراثي أرميا كان أحب لديّ من نشيد سليمان ، ونكبة البرامكة أشد وقعًا في نفسي من عظمة العباسيين ، وقصيدة ابن زريق أكثر تأثيرًا من رباعيات الخيام ، ورواية هملت أقرب إلى قلبي من كل ما كتبه الإفرنج . كذا يُضعف القنوط بصيرتنا ، فلا نرى غير أشباحنا الرهيبة ، وهكذا يصمّ اليأس آذاننا ، فلا نسمع غير طرقات قلوبنا المضطربة .
Kahlil Gibran