طاغور السكندري من أي بهاء تولد أغنياته؟ حين رأيته أول مرة أثار ارتباكي. فهو بالنسبة لي عملاق أسمر، يوحي بما يرتبط بالعماليق من عنفوان ومداهمة، ثم إنه صيدلي بالدراسة، مما يوحي أيضا بحدة العقل العلمي وحوافه القاطعة، لكنني ما إن جالسته حتى أحسست برفيف فراشة يَدُفُّ في المكان، وألق ملون يشع قريبا مني، ولم يكن هناك في المكان وبالقرب مني سوى هذا الصيدلي الشاب الأسمر العملاق، القادم من الإسكندرية العذبة، أحمد الديب، الذي تتناقض كنيته أيضا مع حقيقته الإنسانية والروحية والثقافية، مخلوق أبعد ما يكون عن بطش الافتراس، وإن كان شجاعا ونقيا في صدقه، وهو إلى كل ذلك بالغ الرقة، وكيان ثقافي مفعم بالجمال ومشع به، فهل لكل ذلك علاقة بكتابته؟ قطعا لذلك كله علاقة بكتابته، طبقا لقناعة أومن بها هي أن حياة الكاتب هي أفضل تعليق على كتابته، وكتابته هي أفضل تعليق على حياته.، وما حياتنا إلا نتاج تكويننا الماثل في الأعماق، والمُتجلي في تفاعلاتنا مع العالم من حولنا، حياتنا، هذه هي حياتنا. ومخلوق مثل أحمد الديب من المنطقي جدا أن يتجلى بكتابة قوية ورقيقة وجميلة وصادقة حتما، بل استثنائية، فاجأتني بعد أن تعرفت عليها تباعا نَصا من بعد نَص، على مدى شهور طوال، ثم كانت المفاجأة وأنا أعيد قراءتها دفعة واحدة، فقد راحت تعبر بذاتها وبي إلى الامتحان الأهم لأي كتابة، وهي قدرتها على تجديد إدهاش قارئها كلما جدد قراءتها، وقد اندهشت، وأرجح أنني سأظل أندهش كلما عاودت قراءة هذه النصوص. فأي سر فيها؟ هذا السؤال أزعجني كثيرا وأنا أعيد قراءة هذه النصوص البديعة لأكتب كلمتين عنها، بل وعطلني طويلا عن هذه الكتابة، فكلما عاودت القراءة أجدني عازفا عن أن أخط كلمة، لسبب وضح لي مع الوقت، هو أنك عندما تصادف الجمال تحب أن تعيشه وتمتزج به، لا أن تحلل مكوناته لتصل إلى سر تركيبه، وهذه نصوص فائقة الجمال كلما عاودت قراءتها تغمرني النشوة، وأخرج من زحام وضوضاء العالم الفظ الذي يُثقلنا، خاصة في الفترة الأخيرة، وأحلق وأدور نشوان في فلك عالم من البهاء والنقاء والرحمة، وهو عالم حقيقي تماما لا اختلاق رومانسي فيه، بل تعقب واقعي لعاشق متسام يكافئه إخلاصه برؤية الحقائق البهية الخافية عن مبتذل العيون، فيما هو يقتفي أثر ما يشغفه من الكون والكائنات. فأي سحر في هذه الكتابة؟ سؤال ما كنت أود أن أتحمل وزره، في رحلة قراءة تحملني إلى الذهاب بعيدا وعميقا في الإحساس بالعالم لا مجرد فهمه، وأظن أن الإحساس ينطوي على حدس هو أعلى من كل فهم، ومع ذلك، ومطاوعة أليمة للسائر من أمور المقدمات، دون استسلام كثير لتراثها، سأحاول الإجابة على السؤال دون أن أضيع حقي في الانتشاء بهذه النصوص كلما عاودت قراءتها، وهي مغرية بمعاودة القراءة، لماذا هي مغرية بمعاودة القراءة؟ وجدتني أوجه لنفسي السؤال فلا أسعى للإجابة عنه، بل أذهب بخاطري إلى نصوص أخرى أحب معاودة قراءتها كلما ضاق بي هذا العالم مزدحم الصخب والخشونة والقسوة، وتوالت الأسماء والأصداء والكتب، وإذ بي أتوقف عند طاغور، وبالتحديد أغنياته، فأعاود قراءتها، وإذ بوميض السحر في أغنيات طاغور يضيء لي كُنه السحر في نصوص أحمد الديب القصصية، التي هي أيضا أغنيات، ليست كأي أغنيات. يقول طاغور في أغنية محورية من أغنياته: سماء ملأى بالنجوم والشمس وهذي الأرض تنبض بالحياة وبين كل هذا، أنا أيضا لقيت مكاني من هذا البهاء تولد أغنيتي ظل هذا المقطع من هذا البهاء تولد أغنيتي يتردد في أغنية طاغور وتترجع أصداؤه في نفسي، فأُلامس عَبْرَه كُنه السحر في نصوص أحمد الديب القصصية، التي لا تقل أبدا في رقيها وتحليقها وعبقها عن أغنيات طاغور، وتوازي بدقة النثر ونصوعه علو السبك الشعري عند شاعر الهند الكبير، ثم يأتي المشترك الأعظم بين طاغور الهندي، وطاغورنا السكندري، والذي أحدس أن فيه سر السحر. إنه إدراك روح الكون والكائنات. من هذا الانجذاب بالروح إلى روح الكون والكائنات يولد سحر أغنيات طاغور الهندي، وسحر نصوص أحمد الديب، فأحمد الجميل يقدم لنا كل ما يكتب عنه شفيفا فنرى وميض روحه، للون عنده روح، وللفراشة، ولنجمة البحر، ومروق القطار، وابن الحداد، واللافتات، والحجر، وللخطوات، ولليل والفجر، ولكل ما كتب عنه طاغورنا السكندري روح. وأرجح أنه من هذا المدى وصل إلى سر السحر الذي يعيد به تقديم مفردات الوجود المادي لنا. فنكتشف أننا أحياء نحلق في مدارات أفلاك حية، فنحب الحياة، ونحِنُّ إلى الحياة. مرحبا بأحمد الديب، طاغور السكندري، قيثارة إبداع جميل، تحلق مع شدوها أرواحنا، فنستعيد بعضا مما يسرقه هذا العالم من أرواحنا. ونصير أفضل وأكثر استعدادا للأجمل. محمد المخزنجي القاهرة في 12/12/2012 . محمد المخزنجي